Atwasat

ذكرى الاستقلال

جمعة بوكليب الخميس 24 ديسمبر 2020, 01:50 صباحا
جمعة بوكليب

في الماضي البعيد نسبياً، حين كان الحديث يدور بين أمي وغيرها من الأمهات عن الولادات، أتذكر أن أمي، أطال الله عمرها، كان لا يفوتها تذكير غيرها من الجارات المتواجدات في تلك الجلسات النسوية، بأن ولدها جمعة، ولدَ بعد صدور فلوس الملك إدريس بيومين. وأذكر أن النسوة المتواجدات في تلك الجلسات، لم يكن ليولين ما تقوله أمي أدنى اهتمام، لأن أغلبهن لم يكن يهمهن ذلك، ولا يمثل لهن شيئاً يستحق تذكرهن له، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى، لم يكن الملك إدريس السنوسي، رحمه الله، على علم بوجود تلك العلاقة، أحادية الجانب والمزعومة، من قبل أمي، والتي تربط بين إصدار دولة مملكته الليبية المتحدة للنقود، وبين ولادة طفل ليبي آخر، في السبيتار الكبير في شارع الزاوية. والدة ذلك الطفل، أمي، امرأة أمّية، لكنها عملية جداً في ذات الوقت، لا يهمها من تذكر تاريخ ولادة الدولة الليبية المستقلة إلا المسافة الزمنية التي تفصل بين إصدارها لأول عملة نقدية تحمل اسمها، وصورة ملكها، وولادة طفلها، أنا، في ظهيرة يوم جمعة شتائي، منذ قرابة سبعين عاماً.

أمي لم تعد تذكر لزائراتها ولجليساتها، هذه الأيام، تلك العلاقة الضاربة في القدم. وربما يعود ذلك لأن أولئك الزائرات والجليسات قد سبقنها في الرحيل إلى عالم آخر. أو ربما لإحساسها بعبث حياة عاشتها وعركتها، في بلاد ارتبط ظهورها في العالم بسوء حظ لازمها. وللأسف، فات أمي العلم بوجود علاقة أخرى، أحادية الجانب أيضاً، ولا تقل أهمية، تربط بين ظهور دولة وفلوس الملك إدريس، وولادة السيد المسيح عليه السلام، وولادتي. وأنا على ثقة بأن أمي لو علمت بوجود هكذا علاقة، مهما كان ضعفها، بين ولادة السيد المسيح وولادة ابنها، لما ترددت في ذكرها، والإشادة بها أمام غيرها من الأمهات، وربما لإثارة غيرتهن. ولصارت تردد، بفخر، أمامهن أن ابنها جمعة، كان محظوظاً، بشكل ما، لأن تاريخ ولادته توافق مع حدثين تاريخيين عظيمين: حدث ليبي، تمثل في ظهور أول عملة ليبية بعد استقلال ليبيا من الاستعمار الإيطالي بقرار من هيئة الأمم المتحدة في 24 ديسمبر العام 1951. والآخر على مستوى العالم، ممثلاً بمولد السيد المسيح عليه السلام، حسب تقويم الكنيسة الغربية.

ما زالت أمي، إلى يوم الناس هذا، حين يرد اسم الملك الراحل إدريس السنوسي في حديث، تترحم عليه بصوت مسموع لكل من حولها، حتى في أيام النظام العسكري، وتتحسر على أيامه، وعلى يُسر العيش في ربوع مملكته، وتأسف بحزن على ما ألمّ به، وبحياته، من صروف الدهر وتقلباته، وتنسى، في نفس الوقت، أن ابنها، الذي كانت تفخر أمام الأمهات بولادته بعد يومين من صدور فلوس الملك الراحل، ناله بعض ما نال الملك الراحل إدريس ومملكته من سوء حظ وتعثر في الأحوال. وأنها، على عكس ما تدّعي وتزعم، لا تعلم، على وجه الدقة، بمدى ما علق بقلب ابنها من حسك الدنيا وشوائب الدهر والناس. وتنسى، أيضاً، أن ابنها، رغم كونه لم يحالفه حظ في أن يكون ملكاً، لكنه، لسوء حظه، شارك الملك الراحل إدريس رغيف المنافي والغربة، وزاد على الملك إدريس بكونه استطعم مرارة الحبس في سجون بلاد، كان من المفترض أن تكون وطناً يحميه، ويقيه تقلبات الزمن.

قرابة ثمانية عقود مضت، استقلت دولة ليبيا، وظهر اسمها على خرائط العالم بين بقية الدول في العام 1951، وجاء ميلادها متزامنا مع الاحتفال بعيد ميلاد السيد المسيح عليه السلام، وأنتوي به من الدول الراعية والأمم المتحدة أن يكون هدية «عيد الميلاد-Christmas Present» للشعب الليبي. لكن الدولة المستقلة سرعان ما دارت بها صروف الزمن. وما زالت في طور الحبو، ولم تتمكن، بعد قرابة ثمانية عقود، من تعلم الوقوف على قدمين.

وها نحن الآن، ما زلنا ندور في دوامة المربع الأول، ونرى بأعيننا كل يوم المآل الذي تسير نحوه أمور البلاد، التي كنا نتمنى ونطمح، في قلوبنا، وأحلامنا، وقصائدنا وأغانينا، أن نراها تنمو وتكبر وتزهر، فإذا بها تُدفع عمداً للسقوط في هاوية، لا أحد منّا قادر على التنبؤ بإمكانية خروجها منها، ومتى، وكيف؟

يوم الخميس 24 ديسمبر 2020 الذكرى التاسعة والستون لاستقلال ليبيا. في نفس التاريخ من العام 2021، سنحتفل، بإذن الله، بالعيد السبعين للاستقلال. كل ما أتمناه أن يجيء ذلك اليوم وقد تخلصت بلادنا وشعبنا من جند المرتزقة الأجانب، وأغلقت كل القواعد العسكرية الأجنبية، واستردت استقلالها وسيادتها، وتمكنت من الوقوف على قدمين راسختين على أرض ليست رخوة، وأغلقت إلى الأبد كتاب الفُرقة والانقسام.