Atwasat

الكتابة بين التجهم والتسامح!

أحمد الفيتوري الثلاثاء 22 سبتمبر 2020, 01:39 مساء
أحمد الفيتوري

ما يُشاع كثيرا، يمسي في باب الحقيقة، لهذا أشاع الساخرون الليبيون، أن الليبيين متجهمون غير ساخرين، وأخذوا ينشئون، ويبدعون سخريتهم، من هؤلاء المتجهمين. فشاعت بين الليبيين، سخرية من انعدام السخرية لديهم، ولم يكن ذلك، أي شيوع السخرية من التجهم، إلا محصلة لحقيقة أن السخرية نتاج نقيضها أولا، وثانيا أن الساخر يحطم بسخريته الصخر، أي يواجه الصعاب ما يعيش، بالتهكم منها فالتقليل من شأنها، وإبراز معايبها فيما يكون كاريكاتيريا.

وعلّ بورتريه الساخر الليبي، يبين أن للسخرية تنوعا عميقا كدال وكمدلول، حتى إن هناك سخرية متجهمة، تبان كجلمود صخر، ما سمى بالسخرية المريرة، التي تكون في صورة الحقيقة الجامدة، ومثل هذه السخرية، من الطبيعة الوعرة، تبدو كما تبرم الطفل، أو مثلما تغني فيروز حراراة الثلج القاسية.

لقد شاعت مثل هذه السخرية، في الآداب الشعبية، وفي الآداب الفصيحة، خاصة في الأخوانيات الشعرية، وفي مجال القضاء الأكثر صرامة، ومنه عرفت شخصيات باعتبارها، هزلية تحول التراجيديا إلى كوميديا، وأحيانا إلى كوميديا سوداء. وهذا الشيوع شكل الكتابة الساخرة، ما تعدد كتابها بشكل ظاهر وباطن، منذ ظهور الصحافة في ليبيا، مع نهاية القرن التاسع عشر 1866م، وما أنتجت صحفا مختصة في هكذا مجال، مثل جريدة (بوقشة) 1908م، في العهد العثماني الثاني، ومجلة (المرآة) 1943م عهد الإدارة البريطانية،وفيهما بدأت الرسوم الساخرة (الكاريكاتير)، ما بعد شاع في غيرهما من المطبوعات.

لكن من كثف من ثقافة السخرية تلك، ومن أبدع فيها بشكل عميق ومميز وظاهر، هم: الكاتب المؤرخ علي مصطفي المصراتي، من مثل شخصية ساخرة متهكمة في حياته وكتاباته. ثم من كناه بعض الليبيين الفيلسوف الساخر: الصادق النيهوم، ما جديته الشخصية، متهكمة في تعبيراتها الناقدة، وفي كتاباته سخر من الجدية الليبية اللا جادة، فكان الليبيون، يقرؤون سخريته منهم بسرور وحبور. أما ثالث الثلاثة نجوم السخرية الليبية: الرسام الكاريكاتيري محمد الزواوي، من لا أظن أحدهم رآه يبتسم، لكن إن حدث وعلق وسُمع، فيكون فحواه التهكم المبطن، السخرية المراوغة، فالضحك، ما يوزاي مشاهدة لوحاته (كاريكاتيره).

• المصراتي المتسامح الساخر!
ذيوع أن الشيخ الأزهري، علي مصطفي المصراتي صاحب نكتة، مثلما لذوعة سخريته المضمرة في كتاباته غير الساخرة، أو في خطبه السياسية، وعند مشاركته في الندوات والملتقيات الفكرية. وإن تحليل السخرية عند المصراتي، سيبين أنها نهج ينهج الفكر النقدي، ما يعني أن إعمال العقل النقدي، يستدعي تفتيت الجمود، في الظاهرة أو الفكرة المستهدفة. والسخرية لم تكُن طريقة تفكير فحسب بل غاية لحياة، من هنا كان علي مصطفي المصراتي شيخ السخرية، ومن هذا لم يكن ممكنا له ولا لمتلقيه، الفصل بين الساخرالمبدع، فيما يكتب وفيما يعيش.

فالمصراتي عجينة من روح الساخر والفكر النقدي، والسخرية ضرورة للعيش وللكتابة، لمواجهة الحياة الصعبة والجمود الفكري، المجتمعي في محيطه، والمدرسي كما في جامعة الأزهر، والناتج زخم متنوع وضرب في كل الضروب، هذا ساهم فيه الروح الساخرة، التي تكسر التأطير والحدود، وتستهدف اللحظة، فالظاهر من الظاهرة، كما غواية نزع القشرة الصلدة للفكر والمجتمع، وهذا يرفده ويعاضده روح التسامح، ما لب روحه وجوهر فكره.

لقد تمكن بالتسامح، أن يقبل الآخر والاختلاف، وأن يطلق سهامه الحادة كسخرية لاذعة، من الآخر والمختلف، الجامد والمتطرف، فمن يلبس لبوسهما من شيخ ومن مثقف وكاتب، ومن مجمل القوى الاجتماعية، وحتى في أحيان كثيرة، السياسية. ولأجل ذلك وبحق قد أسهم في وضع اللبنة الأولى في ليبيا لقيم التسامح هذه، إنه معلم من مُعلمي التسامح، الذي هو أكثر من (القبول بالغير)، إنه الاعتراف بالحق في الاختلاف، بل قبول الحق في الخطأ كحق من حقوق الإنسان، ذلك أن الخطأ لازم من لزوم البحث عن الحقيقة، وأن كل شيء نسبي، أو كما يقال في عبارة بسيطة، بأن مفهوم التسامح يعنى: أن تحيا أنت والآخرون.

لقد كانت سخريته، بسيطة عفوية دلقة، لا تقعر فيها ولا إسفاف، وهي في السياق فتبدو وحي الخاطر، تشد المتلقي من أطراف عقله، دون عناء ولا تركيز عال، وتلفت نظره إلى المقصود، فتعطيه المعنى على طبق الشكل السلس. ومُصاب الشيخ المصراتي الاسترسال عند الكتابة والحديث، لكن في الجانب الساخر منهما، مقتضب وبَرقي وماهر في الاختزال، وكأنه على عجل من أمره، لا يستزيد ولا يشرح، وإن كان يجعل الموضوعة، بين يديه كما في مشرحة، تنكث كل ما لديها وما فيها.

ومما كتبتُ في رسالة إليه منشورة: أنت هذا الإنسان الكاتب المخلص لفنه، الصريح الساخر الذي يعصر ذهنه، ويرهق نفسه، ويتحمل ألوان التهجمات في سبيل قلمه وفنه، وقد تتجاوز صراحتك وسخريتك، العرف والتقاليد والحدود، وقد تؤذي سخريتك الناس وقد تؤذيك أنت!، ولكنك على الطريق سائر. "فقد يثمر الفن الكتابي في ظلال السخرية، وقد تبلور الحقيقة في إطار من الفكاهة، قد يكون ذلك مرتعا لمشرط ". أو كما قلت في كتابك: (كفاح صحفي -أبى قشة وجريدته في طرابلس الغرب -ليبيا، الطبعة الأولى أكتوبر 1961م).