Atwasat

أيديولوجية الوطن أم وطن الأيديولوجيات؟ «1- 2»

أحمد معيوف السبت 20 يونيو 2020, 09:01 صباحا
أحمد معيوف

التحولات الهائلة والأحداث العظيمة التي تحدث في منطقة ما تجر وراءها تحديات كبيرة ومذهلة، تؤدي في أحايين كثيرة إلى استقطاب حاد بين الأيديولوجيات -الموجودة أو الناتجة عن الحدث- وينتج عن هذا الاستقطاب غياب صوت العقل وانعدام القدرة على الاستماع إلى الصوت الآخر، وتنجر أطراف الصراع إلى وضع الخصم في خانة العدو. بمعنى آخر يعمل الخلاف الأيديولوجي على خلق العدو من خلال عدم الاستعداد لقبول أي نقد يقلل من شأن ما يدعيه، ويتطور الأمر حتى يندفع في خوض حرب يصبغ عليها منطق «الخير مقابل الشر»، رغم أنها كلها شر.

يصنف البعض الحركة القومية العربية والحركة الإسلامية كحركات أيديولوجية كبرى تحمل مشاريع فشلت في تحقيقها، وقد أدى هذا الفشل إلى تفجر الصراع بين الحركتين، إلا أن هذا الصراع -كالذي يجري الآن في ليبيا مثلا- هو صراع فوضوي تغيب عنه كل قيمة وكل منطق عدا منطق التبرير، ويتناقض تماما مع السمات الأساسية للديمقراطية التي جوهرها قبول المخالف، وحق انتماء المواطنين إلى أيديولوجية وأفكار معينة والإيمان بها دون الإساءة إلى أيديولوجيات وأفكار وعقائد المخالفين، بل قبولها واحترام تلك الأيديولوجيات الأخرى والتعايش معا.

من مساوئ الأيديولوجيات أن لها سلطة على معتنقيها، كما أنها تفتح الباب على مصراعيه للتنديد بالخصوم والتبرير للموالين، فالإسلامي مثلا يعتقد أنه يملك الحقيقة كاملة، ويبرر أخطاءه على أنها «اجتهاد لم يوافق الصواب» وأخطاء غيره «كبائر تستوجب التوبة أو العقاب».

ولعل من أكبر مشاكل الإسلاميين في تقديري تكمن في مفهوم التمكين، فهناك خلط -في اعتقادي- بين التمكين على الجغرافيا والتراب والتمكين الروحي على القلوب. فالتمكين على الجغرافيا سلطة سياسية متغيرة لا ثوابت لها، وأداتها القوة المادية، لذلك سعت التيارات الإسلامية في ليبيا إلى امتلاك السلاح والاستحواذ عليه منذ ثورة فبراير، وحرض بعض الشيوخ شباب بنغازي على عدم الانضمام للجيش والشرطة التي يعتبرونهما أداة للدولة العلمانية، بل وصل الأمر بهم إلى أن طالبوا الشباب بعدم تسليم أسلحتهم حتى يتمكنوا من إقامة «شرع الله» على الأرض، حسب فهمهم.

لا يختلف هذا النوع من التمكين عن الاستعمار، فكما يرى الإسلاميون الفتوحات الإسلامية باعتبارها تحريرا للعباد من سلطة العباد، يرى الغرب أن استعمارهم للشعوب «البدائية» التي استعمروها بقوة السلاح تطوير لهذه الشعوب، وانتشال لها من التخلف. والنتيجة في كلتا الحالتين هي الاستفادة من ريع الأرض التي فتحت أو استعمرت، كما عبرت عن ذلك كتب الثرات ونقل على لسان أحد الخلفاء، حين شاهد غيمة تمر من فوق رأسه، فنظر إليها وخاطبها قائلا لها: «أمطري حيث شئت فخراجك سيأتيني». وقد «فلت» لسان بعض هيئات الفتاوى العربية في خضم السجال السياسي الذي تخوضه بعض الأنظمة إلى اعتبار «فتح القسطنطينية» احتلالا لها كما جاء في بيانها الذي نصه «بُنيت آيا صوفيا ككنيسة خلال العصر البيزنطي العام 537 ميلادية، وظلت لمدة 916 سنة حتى احتل العثمانيون إسطنبول العام 1453، فحولوا المبنى إلى مسجد».

المهم، الذي أود أن أذهب إليه في عابر حديثي هذا أن التمكين على الأرض هو نوع من الاستعمار، لا يختلف إن قام به المسلم بغرض تمكين الدين كما يعتقد، أو غير المسلم بدعوى تطوير الشعوب البدائية كما يدعون. لكن التمكين الحقيقي هو تمكين الدين في القلوب، التمكين الروحي لدين الله في قلوب عباده، وبالتالي لا تهم الجغرافيا التي يعيش فيها من تمكن دين الله من قلبه، وقد فهم الاستعمار الغربي هذه الحقيقة فلجأ عقب حروبه وانتصاراته إلى المفهوم الذي عرف بمفهوم كسب قلوب وعقول الخصوم «winning hearts and minds».
مفهوم التمكين قضية خطيرة تحتاج إلى مزيد من البحث، لكن الإسلام المؤدلج أو الإسلام السياسي وضع كل بيضه في هذه القضية في سلة واحدة، ألا وهي إقامة شرع الله على الأرض كما تصوره له أدبياته، بغض النظر: هل هذه الفكرة قابلة للتطبيق ومقبولة؟ أم أنها ستواجه تحديات وأسئلة تحتاج إلى إجابات دون اللجوء إلى حدة السيف وفوهات البنادق ونيران المدافع؟!

ليس الإسلاميون وحدهم من أصابهم هذا الداء، داء محاولة التمكين لأيديولوجية بقيادة المشهد السياسي ورسم خطوطه العريضة وتحديد توجهاته. هذا «الداء» تجاوز الإسلاميين إلى غيرهم من التيارات وأصحاب التوجهات والأهواء الفكرية والسياسية. فالفكر القومي الذي تبنته أوروبا في القرن التاسع عشر هو فكر شوفيني متسلط ومستبد أفرز الصهيونية والفاشية والنازية التي اضطهدت غيرها من الشعوب، وهددت السلم العالمي ولا تزال تحت غطاء التفوق العرقي، وتسببت في كوارث وحروب كونية ما زالت آثارها شاهدة على فظاعتها.

رغم أن العصبية العربية متوغلة في التاريخ، وحققت أوج مجدها في الدولة الأموية كما يعتقد الكثير من المؤرخين، إلا أن فكرة القومية العربية في التاريخ المعاصر ظهرت كأيديولوجية قومية على يد عدد من المفكرين العرب، كردة فعل لما أظهرته القومية الطورانية تجاه العرب في فكرتها العنصرية التي تماهت مع الفكر القومي الأوروبي، تلك الفكرة التي تنطلق من نظرة الاستعلاء العرقي. فقد عمل الأتراك على «تتريك» العرب وإقصاء كل مقوماتهم الأساسية في الدولة العثمانية المنهارة بعد الحرب العالمية الأولى، واقتربت من الفكر الأوروبي الذي انطلق من التعصب العرقي للجنس الآري الذي ما زلنا نراه حتى يومنا هذا، خصوصا في الحركة الصهيونية التي تتبني مفهوم «شعب الله المختار» كركيزة لهذه الأيديولوجية العنصرية. وكان صاحب هذا التوجه الإقصائي هو حزب الاتحاد والترقي القومي، وتوج هذا التوجه على يد كمال أتاتورك حين وصل إلى الحكم بعد سقوط الخلافة الإسلامية، فألغى اللغة العربية في المدارس وأزال الكثير من شواهد الثقافة العربية وآثارها على تاريخ تركيا.

ظهرت إذا النزعة القومية من المشاكل الحقيقية التي واجهت القومية العربية -التي تبنت المفهوم الأوروبي للقومية- إلا أن مفكريها لا يملكون فكرة واضحة ومحددة عن الحدود الجغرافية للدولة القومية التي ينادون بها، لأن هذه الحدود غير موجودة على الواقع، كما أن بعض التيارات القومية العربية، ربما تأثرا بالفكر القومي الأوروبي الذي نشأ مناهضا لسلطة الكنيسة «وليس للدين كما قد يعتقد البعض» قد شطح في غلوه، كحزب البعث مثلا الذي ذهب بعض رجالاته درجة الكفر والعبث حين قالوا: «نحن البعث والدنيا بنيناها... لو امتدت يد الله إلى البعث قطعناها»... لذلك فهم، بالإضافة إلى أن طرحهم هذا اصطدم بوجود أعراق أخرى تشاركه الجغرافيا، أسسوا لقطيعة مع الشعوب التي انتموا إليها، لأنها مست المقدس عند تلك الشعوب، لذلك عاشت فكرة الحزب فقط في كنف الحزب دون أن تتكون لها قاعدة شعبية تحتضنها، باستثناء اتساع قاعدتها حين حكم حزب البعث في العراق وفي سورية، بحكم سلطة الحزب لا بحكم الإيمان بمبادئه.