Atwasat

المريض.. «Zero»!

حمدي الحسيني الجمعة 29 مايو 2020, 06:10 مساء
حمدي الحسيني

العالم تنفس الصعداء مع تخفيف القيود الصارمة، والعودة التدريجية إلى الحياة الطبيعية عقب نحو ثلاثة أشهر من الرعب والإغلاق والموت البطيء، خوفًا من الإصابة بفيروس «كورونا» اللعين في أية لحظة. هنا السؤال.. هل يعود الغرب إلى حياته العادية، كما كانت عليه قبل تفشي الوباء، أم سيظل «كوفيد-19» شبحًا يتربص بهم لفترة طويلة؟

الإجابة تعيدنا إلى مطبخ السياسة الأميركية وعدد من العواصم الغربية الكبرى، خصوصا إذا استثنينا مواقف أغلب دول العالم الثالث، لأن معظمها -وحتى اللحظة- على رصيف العالم.

من سوء حظ الصين، وجود شخص بعقلية الرئيس الأميركي دونالد ترامب على رأس السلطة في البيت الأبيض حاليا، وهناك احتمال كبير لفوزه بفترة رئاسية ثانية أيضًا، فهو أول من أطلق على «كورونا» اسم «الفيروس الصيني»، ثم بدأ في تحميل قادة الصين، مسؤولية تفشي الوباء وانتقاله منها إلى أرجاء العالم، وكان هو أيضًا أول من طالبهم بضرورة دفع فاتورة الخسائر التي لحقت ببلاده، إلى جانب تعويض ذوي الضحايا الذين افترسهم هذا الفيروس القاتل، كما صعد ترامب من لهجته تدريجيًّا، ووصل إلى حد التهديد بقطع العلاقات الكاملة مع بكين.

ما ندركه جيدًا أن العالم المتحضر لن يمرر أزمة «كورونا» مرور الكرام، وبالفعل انضمت كل من فرنسا وألمانيا وإنجلترا وأستراليا إلى دعوة ترامب لمطالبة الصين بتعويضات مالية ضخمة، بل وتمسكوا بإجراء تحقيق دولي شفاف، حول بداية ظهور المرض، وكيف انتقل إلى الإنسان، وكيف تسرب الفيروس من بين جدران المعامل إلى البشر؟

العواصم الخمس الكبرى فتحت خطوط التعاون الاستخباراتي فيما بينها على مصراعيها، وبدأت في تبادل واسع للمعلومات حول قضية المريض «Zero»، وتعكف هذه الأجهزة حاليا على تفريغ وترجمة آلاف المكالمات الهاتفية بين قادة الحزب الشيوعي الحاكم في الصين خلال الفترة الأولى لظهور الوباء، فمثلًا طرحت المخابرات الفرنسية كل المعلومات حول مختبر ووهان، الذي قدمته حكومتها هدية للمدينة قبل أعوام، أما المخابرات الألمانية، فقد رصدت مكالمة بين الرئيس الصيني مع مدير منظمة الصحة العالمية ينصحه خلالها بعدم التسرع في إعلان «كورونا» وباءً عالميًّا، وهو ما حدث بالفعل في بداية ظهور الوباء، مما ترتب عليه استمرار عمل حركة الطيران، وانتقال الأشخاص والبضائع بطريقة اعتيادية من وإلى الصين، مما تسبب في انتشار الفيروس منها إلى باقي أنحاء العالم بناء على إرشادات الصحة العالمية المضللة!

الخطوة التالية جاءت من الصين نفسها، حيث قابلت دعوة الدول الخمس الكبرى بإجراء تحقيق دولي، بالرفض التام، ثم هرولت إلى حلفائها، تدعوهم للاصطفاف ضد فكرة التحقيق، بزعم أن ذلك يمس بسيادتها، ويفتح الباب أمام هيمنة القوى الكبرى، وتشجيعها على انتهاك سيادة الدول «المستقلة»، متناسية أنها كانت منشأ الوباء.

ومع تمادي الصين في عنادها، تمسك الغرب بحقه في معرفة جذور الأزمة، وضرورة البحث عن إجابة للسؤال الحيوي، كيف انتقل الفيروس القاتل إلى الإنسان؟ وهل كان من الممكن السيطرة عليه في أضيق نطاق أم أن الإهمال وعدم الشفافية الصينية، وربما التعمد كان سببًا في تفشيه بهذه الصورة المفزعة؟

تبدو الصين حاليا في مأزق، خصوصا لو أثبتت المعلومات الاستخباراتية، والتسجيلات التليفونية، وجود شبهة تعمد أو إهمال من جانب قادتها، مما أدى إلى تفاقم الأزمة وتحولها إلى جائحة عالمية، كما أنها في حال إدانتها أو الكشف عن معلومات قامت بحجبها أو محو أدلة بشأن التعامل مع الوباء، فإننا سنكون أمام مأزق دولي خطير، خصوصا لو علمنا أن قوة الصين الصناعية والاقتصادية تأسست عبر بوابة الغرب المتقدم، فهم الذين نقلوا مصانعهم طوعًا إليها، ووافقوا على تزويدها بالتكنولوجيا والخبرات، كما تقاسموا معها الأرباح الهائلة.

صحيح أن الصينيين اجتهدوا وضحوا وقدموا تجربة مثيرة في مكافحة الفقر والانتقال بمجتمعهم المعقد من حالة التخلف إلى مصاف الدول الاقتصادية الكبرى في فترة زمنية لا تتجاوز العقدين، لكن لا ينبغي تجاهل الانفتاح الغربي والمرونة والتسامح، وإفساح الطريق أمام انطلاقها الاقتصادي.

فماذا لو سحبت تلك القوى البساط الاقتصادي من تحت أرجل الصين؟

أظن أن هذا وارد، وبدأت الولايات المتحدة تدرس بالفعل البحث عن بدائل لمصانعها الضخمة، وتتجه الأنظار إلى مناطق مختلفة حول العالم، منها الهند والمكسيك والبرازيل، ثم إلى كل من تركيا ومصر في الشرق الأوسط، كأسواق واعدة، تتوافر فيها الأيدي العاملة الرخيصة، إلى جانب إحداث توازن اقتصادي في تلك الدول يسهم في تقليل حدة الفقر والتخلف المنتشر بها.

هل تستسلم الصين لمحاولات القوى الغربية إخضاعها، وهي التي تضع نصب أعينها الغرب باعتباره العدو المحتمل والولايات المتحدة كخصم رئيسي لها طوال الوقت؟

القدر المتيقن أن كبار العالم لن يسمحوا باندلاع حرب تقليدية مع الصين في المنظور القريب، لكن المؤشرات توحي بأن الولايات المتحدة سوف تقود الغرب لرسم سياسة جديدة للتعامل مع الصين، في المستقبل، تقوم على أساس الخناق الاقتصادي والحرب الباردة، مثلما حدث من قبل مع الاتحاد السوفياتي السابق، وكما كان الغرب المحرك الرئيسي لبزوغ الصين كقوة اقتصادية، سوف يكون هو العامل الرئيسي أيضًا لأفولها اقتصاديًّا، وبشكل تدريجي.

بالطبع تعلمت الصين الدرس من تجربة سقوط الاتحاد السوفياتي المريرة، وسوف تقاوم هذا المصير، وتسعى جاهدة للبحث عن وسائل لإجهاضه، وذلك عبر إقامة تحالفات جديدة مع الدول التي تدور في فلكها، وعديد من الدول النامية، وربما تنجح نسبيًّا بأن تحتفظ بعلاقات تجارية جيدة مع تلك البلدان، لكن المؤكد أنها ستفقد وهجها وازدهارها الاقتصادي السابق الذي حققته عبر شراكاتها مع القوى الكبرى خلال العقدين الماضيين.

الخلاصة، الصين قبل «كورونا» لن تكون أبدًا الصين بعد تفشي الوباء، مهما قدم الصينيون من تبريرات، فالغرب لن ينسى أبدًا تلك التجربة المأساوية مع جائحة «كورونا»، وأن المريض «Zero» خرج من ووهان، كما لن ينسى حق أكثر من نصف مليون إنسان قضوا نتيجة إهمال وعدم شفافية الصين في التعامل مع الوباء القاتل.