Atwasat

نساء صغيرات

جمعة بوكليب الخميس 23 يناير 2020, 01:05 مساء
جمعة بوكليب

حين قرأت أخيرا إعلانا عن بداية عرض شريط سينمائي بعنوان «نساء صغيرات»، حرصت، أولا، على متابعة ما قدمه نقاد السينما من قراءات وآراء نشرت، في الصحف، حول الشريط. وفي بداية الأسبوع التالي، حرصت، ثانيا، على الذهاب إلى دار عرض سينمائية لمشاهدته

الحنين إلى الفترة الزمنية التي قرأت فيها رواية «نساء صغيرات»، للكاتبة الأميركية لويزا ماي الكوت مترجمة إلى اللغة العربية، كان محرك اهتمامي، ومبعثه حرصي على مشاهدة الشريط

حين انتقلت أسرتي إلى السكن بشقة قرب مدرسة طرابلس المركزية الابتدائية في شارع عمر المختار بطرابلس، على بعد مرمى حصاة من المركز الثقافي العربي، كنت تلميذا بالصف الخامس الابتدائي. كان بالمركز مكتبة للناشئة، تتوافر فيها كل مجلات الأطفال المصرية التي كانت تصدر، وقتذاك، بالإضافة إلى رفوف كاملة تصطف مكتظة بها قصص الأطفال، ولكتاب معروفين.

المركز الثقافي العربي فتح أمامي عالما أسال لعابي، وأدخلني، بمتعة ودهشة، إلى فضاء ملكوت لم أكن عرفته من قبل، ولا تذوقت لذة ما تقدم بساتينه من أطايب الحروف والكلم والخيال. كما أن الانتقال بالسكن من أزقة وحواري المدينة القديمة إلى السكن في شقق عمارات شارع المختار التي بناها الإيطاليون، مثل نقلة نوعية على عدة مستويات، وتزامنت مع بدايات انبثاق فضولي المعرفي.

كنت أقضي ساعات طويلة أقرأ بمتعة مجلدات كاملة من مجلتي سمير وميكي. وحين استوفيتها، في أسابيع قليلة، كقطع شوكولاتة، تحولت إلى مأدبة أخرى ممثلة في كتب قصص الأطفال. بعد فترة زمنية أخرى، بدأت قدماي الصغيرتان في التقدم، بتردد وخوف، نحو صالة القراءة المخصصة للكبار. وهناك، في تلك القاعة الجميلة الواسعة، بمناضدها وكراسيها الأنيقة، وأرفف كتبها المجلدة، بدأت مسيرة سفر وترحال دائمين في أرجاء عالم بلا حدود.

خلال المرحلة الأولى من تلك الرحلة، وقعت، صدفة، على أحد أرفف المكتبة الكبيرة، على رواية «نساء صغيرات»، مجلدة، ومترجمة إلى العربية، فألتقطتها يدي، وجلست أقرأها حتى انتهيت منها.

كانت رواية مختلفة عما قرأته من روايات عربية. وكانت تلك المرة الأولى التي أقرأ فيها رواية أميركية كاملة مترجمة، وربما لهذا السبب لم أنسها مطلقا، وإن تكفل الزمن وشوائب الدنيا بمحو تفاصيلها من ذاكرتي. ولم يتركا لي سوى تذكر صورة الغلاف، بنسائه الصغيرات، وعنوان الرواية مطبوع في أعلاها بخط مميز.

رواية «نساء صغيرات» نشرت العام 1868، بعد ثلاث سنوات من نهاية الحرب الأهلية الأميركية، ووضعت اسم الكاتبة لويزا ماي الكوت على طريق النجاح الأدبي والشهرة العالمية. ذلك النجاح شجع الكاتبة على إصدار روايتين لاحقتين في نفس السياق واحدة بعنوان «رجال صغار»، وأخرى بعنوان «نجل جو».

لا مجال في هذه السطور للخوض في عوالم تلك الرواية، لأن مشاهدة الشريط السينمائي أعادتني إلى فترة زمنية خصبة في حياتي، وفي تشكيل ثقافة جيل بأكمله، بل ووسمت بسيمائها الساحة الثقافية وتاريخ ليبيا. وبالتأكيد، كان وجود المراكز الثقافية، والمكتبات العامة في القلب من تلك المرحلة، ومن أهم ملامحها.

والذين منا ولدوا، وعاشوا في تلك الفترة الزاهرة، ثقافيا وفنيا وإعلاميا، وعاصروا تلك الأيام، ربما يتذكرونها بمشاعر نوستالجية ممزوجة بحسرة، لدى مقارنتها بما آلت إليه الأمور من سوء، والمصير الذي انتهى إليه جواد الأمل الذي اعتلينا صهوته قاصدين، بشوق ولهفة، وبعزم وحزم، اللحاق بمن سبقونا حضاريا.

كانت المراكز الثقافية الأجنبية، وقتذاك، في طرابلس عديدة، وتتنافس، فيما بينها على استقطاب الناشئين والشباب والكبار بما تقدمه من نشاطات ثقافية، وما توفره على رفوف مكتباتها من كتب ومجلات، وما تعرضه في قاعاتها من أشرطة سينمائية وغيرها. وكانت مقراتها لا تكاد تخلو من الرواد، من مختلف الأعمار.

قاعات المركز الثقافي العربي، على وجه الخصوص، كانت الأكثر حيوية ونشاطا وفعالية، واستقطابا للرواد من مختلف الأعمار والتوجهات. وبالتأكيد، كان ذلك راجعا، أولا، لما كانت تمثله مصر الناصرية، آنذاك، لأغلبية الليبيين والعرب. وثانيا، بما كان يقدمه المركز للأطفال والصبيان والشباب من برامج ترفيهية وغناء ومسابقات أدبية تقدم مساء كل خميس. وبما يوفره من مجلات مصورة للأطفال، وقصص. وما كان يقدمه للكبار من محاضرات وندوات لكتاب مصريين معروفين ومحبوبين، ومن صحف ومجلات مثل الأهرام، وأخبار اليوم، وآخر ساعة، والمصور، وروز اليوسف، وصباح الخير.

إلى جانب المراكز الثقافية، كانت المكتبات العامة، الحكومية، متوافرة. أضف إلى ذلك وجود ساحة إعلامية نشطة ممثلة في العديد من الصحف المستقلة والحكومية والمجلات الثقافية والفنية، والبرامج الإذاعية المختلفة، والنشاطات المدرسية، بالإضافة إلى أنشطة الفرق المسرحية، والحفلات الغنائية.

شريط نساء صغيرات، جعلني أحس بنوع من نوستالجيا إلى ماض طواه الزمن، ونقلني من دون أن أدري، إلى تلك الفترة التاريخية، حتى وجدتني في موضع ذكرني بالإله الروماني جانوس، حارس المداخل والجسور، وهو يقف منتصبا بوجهين واحد ينظر إلى ما سيأتي من أيام، وآخر بعينين مفتوحتين على ما مضى.