Atwasat

اللمرابطون الأسياد (10) ووجد الإنسان

سالم قنيبر الأربعاء 17 أكتوبر 2018, 11:08 صباحا
سالم قنيبر

بمليونين من السنين قدّر علماء الطبيعة زمن ظهور النوع المميز لشكل بدائي للإنسان، وزاد بعضهم قليلا وأنقص آخرون. ذلك أنهم أرجعوه إلى تسلسل تطور الكائنات الحية، وتقصوا الأصل لنوعه مع اللبونات منها. وذهب بعضهم، أو هو استدل على أن إفريقيا كانت المهد للنشأة المتطورة للإنسان المتعارف عليه.

المتابعة للوجود البشري فوق هذه الرقعة من الأرض، إبَّان الزمن المطير المتقطع، أسفرت عن ثلاث مراحل لهذا الوجود. البدائي الأول الذي انقطع استمراره بسبب دورة زمنية متسعة من الجفاف أتت عليه مع بقية ما كان سائدا من مظاهر الحياة.

ثم كانت المرحلة الثانية التي عاد فيها الإنسان للظهور، بعودة هطول الأمطار الغزيرة وتدفق المياه. وعُـــرِّف، وفق ما تركه من رسوم، بالإنسان الصياد. وبعد بضعة آلاف من السنين اختفى ذلك الإنسان الصياد وتلاشى. ليخلفه على مدى المرحلة الأخيرة من اضطراد الجفاف الإنسان الراعي. الذي يتقلص استمرار وجوده باتساع الآثار التي يعكسها الجفاف على بقية أشكال الحياة.

تلك كانت المراحل الثلاث للوجود البشري المُبَــكِّر فوق هذه الرقعة التي نحن بصدد التجوال فيها زمنـا، ومكانا. في يسر أحيانا وبمشقة وملل في بعض مواضعها، وستظل الصحراء التي جاء محلها البداية، أشد المواقع صعوبة وأكثرها مدعاة للملل. لم يكن الجفاف وحده الذي كان يغزو المنطقة ويذهب بمظاهر الحياة فيها.

البحر أيضا الذي يحدها من الشمال، كان يعاود زحفه عليها وفي طوفان جارف كان يغمر أراضيها، ويبقى ما شاءت له الظروف البيئية ومكّنته من البقاء. ثم ينسحب فيحل ـ بفعل المطر المستديم ـ الخصب والنماء على الأرض، لكنه، أي البحر، ما يلبث أن يعود ليجرف ما نما على سطحها ويطمره تحت أنقاض ما يحمله معه من فتات الصخور.

البحر، والجفاف، والماء الذي ينزل من السماء، قوى ثلاث كانت تتنازع السيطرة على تلك الرقعة غير المحددة المعالم من الأرض. منذ العهود القديمة للوجود الحياتي فوق سطح الأرض. وقد عمل كل منها على ترك آثار له أدت إلى إبراز ملامح ظاهرة غدت من سمات التعريف بالمنطقة والدلالة عليها.

سفوح الهضاب التي كانت مغطاة بالمتكاثف من الأشجار تجردت، وتحولت إلى سطوح لامعة من الصخر تعكس أشعة الشمس، والتجاويف التي تتخللها تلك الهضاب من كهوف أو (أحقاف) التي تعرت مداخلها، وجفت جدرانها، أغرت إنسان ذلك العصر، الذي كان كما تدل مخلفاته يملك حسا فنيا راقيا، وقدرات إبداعية متميزة، دفعته لتحويلها إلى لوحات مصورة وملونة، تعكس ظروف بيئته وتمثل مظاهر لما يدور حوله، وتبرز المعالم العامة لحياته. وتضافرت عوامل الجفاف التي اكتسحت المنطقة وقضت على جميع أسباب الحياة فيها، فعملت على الاحتفاظ بتلك اللوحات والإبقاء عليها، لتروي الأخبار عن بعض مما كان. البدايات لما كان.

وعن مناطق ثلاث صمدت في وجه التصحر تفصلها البحار من الرمال، غربية ساحلية تحميها جبال نفوسة وتغذيها بما يمر فوقها من الرياح الموسمية المحملة بالمياه، وأخرى شرقية ساحلية يحميها الجبل الأخضر الذي يقوم بنفس الدور في استقطاب ما يمر عليه من المياه المحمولة في السماء، ومنطقة جنوبية تناثرت في صحرائها واحات تعيش على المتبقي المخزون في جوف الأرض من المياه. مناطق ثلاث تعزلها المتاهات المهولة المذهلة المخيفة من المفاوز، وتمتد إلى أطرافها وتشدها تلك المفاوز. وتُوقف ما كان يجمعها وما كان يمكن أن يصل بها أو يعبر بسكانها إلى مشارف التاريخ الذي توقف عند المتبقي والذي لا يزال يشاهد من النقوش والرسوم.

حاشية:
1 ـ انظر: التاريخ الليبي القديم د. عبد اللطيف البرغوثي ص26 ـ 36.
ـ مختصر تاريخ فزان منذ أقدم العصور / محمد سليما أيوب.
ـ يذكر جيمس ويللارد في مطلع كتابه عن مشاهداته في الصحراء الكبرى أن المؤرخين الكلاسيكيين وعلماء الآثار قد أبدوا الاهتمام تجاه إفريقيا ما قبل التاريخ. وأن المؤرخين العرب قد اختصوا بإفريقيا الإسلامية ، وأن
الاهتمام الحديث بالصحراء الكبرى قد ظهر من خلال استكشافات الرحالة البريطانيين والألمان خلال القرن التاسع عشر، والرحالة الفرنسيين في
أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. الصحراء الكبرى ص7.
وفي سنة 1956 قام العالم الفرنسي هنري لوت برحلته إلى الصحراء الكبرى على رأس بعثة علمية استغرقت ستة عشر شهرا. قام فيها بتصوير الأعداد الكبيرة من النقوش واللوحات المصورة على السطوح الصخرية وجدران الكهوف تصور ألوانا من الحياة البشرية والحيوانية والنباتية المتنوعة غبر مراحل زمنية تمتد إلى عهود ما قبل التاريخ موغلة في القدم. وقد نشر هذه
الرسوم وقام بالتعليق عليها في كتابه ( لوحات تاسلي ـ قصة لوحات كهوف الصحراء الكبرى قبل التاريخ) الذي تمت ترجمته إلى العربية وقامت بنشره
مكتبة الفرجاني سنة 1967.