Atwasat

مروان الطشاني يكتب: يوم دراسي من زمن مضى

القاهرة - بوابة الوسط الأحد 19 ديسمبر 2021, 04:00 مساء
WTV_Frequency

مع بداية العام الدراسي وأيام الشتاء القارس التي نمر بها في هذه الفترة، هذه الأيام.. عادت بي ذاكرتي إلى زمن مضى، كانت المدرسة فيه مختلفة والزمن غير الزمن وحتى البشر لايشبهون بشر زماننا الحالي.

تعود بي ذاكرتي لزمن طفولتي لتحدثني عن يوم دراسي في أحد أيام الشتاء الباردة، حيث رنّ جرس المدرسة منذراً بانتهاء اليوم الدراسي الطويل، وكان صوت الجرس بالنسبة لنا بمثابة سيموفونية بيتهوفنية محببة؛ لأنه إعلان عن انتهاء القيود وبداية الحرية.

انطلقنا بفوضى عارمة وصراخ متقطع نحو باب المدرسة الحديدي الكبير، وبعضنا يهتف بحماس بالغ «تسريح عجاج وريح... والدبة تمشي وتطيح»، كان مدير المدرسة وقتها الأستاذ شحات بطوله الفارع وبشرته الحمراء برفقته الأخصائي الاجتماعي علي بوعود ومدرس الرياضة الأستاذ عمر يقفون في وسط الساحة، ولم تجد محاولاتهم التنظيمية نفعا، فليس بوسعهم السيطرة على هذه الطاقة الهائلة المنبثقة من الأجساد الصغيرة.

حلقة من الأطفال
كان المشهد متشابكا ومتنوعا داخل وخارج المدرسة، ففي الساحة الخلفية للمدرسة تجد حلقة من الأطفال في دائرة يتفرجون بمنتهى الإثارة على شجار ثنائي دون أي محاولة لإنهائه مع تشجيع الطرف الأقوى في الشجار، وعلى مقربة منهم مجموعة أخرى تلعب لعبة البطش الشهيرة «كيكس»، ومجموعة ثالثة في الساحة الداخلية للمدرسة تحاول أن تلعب مباراة في كرة القدم مدتها عشر دقائق، ولا يهم فيها عدد اللاعبين ويوجد فيها مركز لعب وهو «حارس هجوم» أي من يلعب حارس في الوقت ذاته يمكنه أن يهاجم، وطبعا من يملك الكرة هو أول من يلعب ومن حقه اختيار أفضل اللاعبين، وبعد انتهاء المباراة نسمع هدير الفريق الفائز بالهتاف التاريخي «حي كلوها ماينسوها حتى في النشرة قالوها»، بينما المجموعة الثالثة في زحام شديد أمام شجرة البلوط المقابلة للمدرسة لشراء بعض الحلوى منزلية الصنع من الحاجة مبروكة التي تفترش الأرض بجردها البني ووشاح شعرها المزركش ناشرة بهجة في المكان بحديثها الدافئ للأطفال.

‎ولو تجاهلت كل ذلك وأخرجت من حقيبتك المتهالكة بقايا شطيرة الإفطار الباردة الملفوفة في كيس مكرونة سباجيتي فارغ مصنوعة في شركة المطاحن العامة، فسيجتمع عليك الأطفال القريبون منك يرددون الجملة المملة «وراس أمك كسرة» ولو امتنعت فستتنازع الأيدي الصغيرة الشطيرة وتتفتت بينهم قبل أن تصل لقمة منها لفمك الصغير فتتركها مكابراً مدعياً عدم رغبتك بتناولها.

رحلة العودة
وبعد انتهاء كل هذه الطقوس اليومية نحمل حقائبنا على أكتافنا النحيلة، وهي حقائب ثقيلة سيئة الصنع ومتشابهة الشكل والألوان مكتوب عليها جميعها «الفاتح ثورة علمية»، وبداخلها علبة الأدوات المدرسية المعدنية التي لا يوجد غيرها بالمنشأة العامة للقرطاسية والأدوات المكتبية التي نسميها مجازاً «الهندسة»، والمرسوم عليها خريطة الوطن العربي بالألوان ومزينة بعبارة «الوحدة العربية ضرورة حتمية». وفي الغالب تكون أغلب الأداوات الهندسية التي بداخلها قد ضيعناها من بداية العام الدراسي لأسباب غير معروفة.

وأخيرا تبدأ رحلة العودة إلى منازلنا فنتفرق يمينا ويسارا بحسب مناطقنا وأحيائنا، ثم نشرع في العودة مع مجموعة من الأطفال المتجاورين في السكن ونشق طريقنا راجلين. وحين نلمح طفلا صعد في سيارة والده نحاول أن نخفي نظرة الحسد في أعيننا، وندعي في تباه مصطنع أننا رجال نسير إلى منازلنا على أقدامنا متحدين الشارع بمن فيه، لكننا في الحقيقة نحسده على عودته المرفهة لمنزله.

‎ طريق العودة طويل وممل يبدأ عادة بحلقة نقاش نقدية لحلقة الرسوم المتحركة التي تعرض في القناة التلفزيونية العامة الوحيدة المتاحة في ذلك الوقت، وهي «غرانديزر»، حيث نستعرض صراع دايسكي مع فيغا الكبير وخبث مساعديه «قندال وبلاكي» دون أن ننسى الغزل المعتاد بكل من» هيكارو وماريا « اللتين ترتدي كل منهما تنورة قصيرة كانت قمة في الإغراء بالنسبة لنا.

وبعد أن نشبع غرانديزر نقدا وتحليلاً ننتقل لتقييم حلقة الأمس من المسلسل العربي المعروض الذي عادة ما يكون مسلسلا لبنانيا أو أردنيا. وأذكر منها مسلسل «الأمانة» ومسلسل «هبوب الريح»، وكان لكل منا بطله المفضل. وكنا نبدأ في استعراض أسمائهم، وأذكر منهم ربيع شهاب -عبير عيسى – جولييت عواد من الأردن، وعبدالمجيد مجدوب - هند أبي اللمع -أحمد الزين - رشيد علامة- سلمى الدباغ « من لبنان.

ماردونا
بعد انتهاء النقد والتحليل ننتقل لتسلية أخرى نكسر بها رتابة الطريق، حيث نبدأ باستعراض ما لدينا من صور لاعبي كرة القدم التي كانت توزع مع علب السجائر الأجنبية روثمان ومارلبورو، والتي نتحصل عليها عادة من أبائنا أو أشقائنا الكبار المدخنين. وكان تجميع تلك الصور إحدى هواياتنا البريئة، وكلما كان صاحب الصورة نجما كبيرا زاد الطلب عليها. وبعد استعراض سريع للمتاح من الصور، يبدأ مزاد مبادلة الصور المكررة أو التي لا يرغب فيها صاحبها، والصدارة في الاهتمام كانت للنجم الأرجنتيني ماردونا ونجوم البرازيل، بيليه أولا ثم سقراط وزيكو وفالكاو وجونيور، ونجمي فرنسا بلاتيني وتيجانا، وبدرجة أقل رومنيغا الألماني، وبعدها نجوم إيطاليا باولو روسي وكونتي وزوف، ثم البولندي لاتو، ولاننسى حارس الكاميرون العملاق توماس انكونو.

‎بالتأكيد كان من يجمع أكثر عدد من الصور أو ينجح في تجميع تشكيلة متكاملة يُعامل معاملة كبار الزوار، وتبدأ محاولات التودد له للحصول على صورة أو اثنتين، وتزداد الإثارة حين يفاجئنا صديقنا وليد بصور ملونة لنجومنا المحليين التي بالطبع لاتخلو من الثلاثي الأسمر فوزي العيساوي وعلي البشاري وونيس خير، التي يكثر الطلب عليها، وبعدها يأتي الاهتمام بنجوم من أمثال شطوح والساحلي من التحدي والبرعصي والقزيري من النصر وأنيس مكراز من دارنس ونجوم أندية طرابلس بيزان وباني من الاتحاد و شنقب ورضا عطية من الأهلي طرابلس وكذلك جرانة من الوحدة والحبيبان من الظهرة ونوري السري من المدينة وغيرهم، وقد كان هذا الامتياز حصريا عند زميلنا وليد، فخاله صاحب مصوراتي الوسيع بشارع عبد المنعم رياض وهو أشهر مصور رياضي في ذلك الوقت، ومن يرضى عنه يهديه صورة لنجمه المفضل.

‎وهناك بعض عناصر من مجموعتنا يهتمون بالتفاوض مع عمال شركة داوو الكورية، ولا تسألوني عن لغة الحوار بينهم. وكان عمال الشركة يرصفون الطريق السريع وهو طريق عودتنا، وكان الأطفال يسعون بجد للظفر بقفاز يد صوفي أو قبعة عليها شعار الشركة، وأضعف الإيمان الحصول على قطعة لبان كورية الصنع سيئة الطعم. ورويدا رويدا تبدأ مجموعتنا بالتقلص والنقصان بحسب ترتيب منازلنا في طريق العودة.

وقت القراءة
‎ وكان منزلنا في منتصف المسافة بالنسبة لمجموعتي ولا أدخله إلا بعد تنفيذ طلب صديقي عمر اليومي المتكرر بإحضار كأس من الماء، ولو أردت أن أدللهم أقدم لهم قطعتين من الخبز، بعدها أدخل مسرعاً وأرمي حقيبتي وسط المنزل ولا أخلع حذائي متلهفاً لتكملة قصة مجلة «ماجد» أو «بساط الريح» التي يشتريها لي أخي الأكبر كل أربعاء من كشك المجلات المقابل للبريد بشارع عمر المختار والقريب من مكان عمله.

ولا يقطع علي انسجامي بالقراءة إلا صوت أمي موبخاً وطالبا مني خلع حذائي وإعادة حقيبتي لمكانها وغسل يدي ووجهي استعداداً لوجبة الغداء التي تفوح رائحتها المغرية في أرجاء المطبخ، فأدعي تنفيذ أمرها وأدخل متسللاً لأرفع غطاء الطنجرة بهدوء مستعينا بكسرة خبز صغيرة وأغمسها في وسط فقاعات الطبيخ المغلي، ولا يقطع مشروعي الفدائي هذا إلا تدخل أمي الحاسم وإغلاق الطنجرة مصحوبا بنظرة تدعي الحدة وخلفها مودة وحب، فأعود أدراجي مستمتعا بطعم الطبيخ اللذيذ وأستسلم لمصيري وأجلس في غرفتي أتصفح في ملل ما يوجد لدي من مجلات في انتظار وصول أبي وأشقائي وشقيقاتي، لتجمعنا مائدة كبيرة عامرة بالدفء والحب لا يقطعها إلا اتصال جارتنا على التلفون الأرضي تخبر أمي بفرح بأن الجمعية الاستهلاكيه فتحت ويبيعون فيها حليب ودجاج غوط السلطان، فتصدر الأوامر لي ولشقيقي بالانتقال فورا والوقوف بالطابور لإحضار دستة «باكوات» حليب وأربعة دجاجات هي حصة عائلتنا بحسب كتيب الجمعية.

هكذا كانت حياتنا وأيامنا في مرحلة التعليم الأساسي، أحلامنا تتشابه وقتها مع روتيننا اليومي، وما يجمعنا أكثر مما كان يفرقنا، بل حتى روتين بيوتنا اليومي يتشابه وطقوسنا متقاربة.

ربما ماذكرته من تفاصيل اليوم الدراسي ورحلة كفاح العودة من المدرسة ترتسم في كل ذهن من أذهان أبناء جيلي ممن عاصروا تلك الحقبة الزمنية.. ولعل سرد الذكرى يعيد دفء تلك الأيام.

المزيد من بوابة الوسط

تعليقات

عناوين ذات صلة
«صانعة ثوب بابا الفاتيكان».. وفاة مصممة فساتين الزفاف اليابانية يومي كاتسورا
«صانعة ثوب بابا الفاتيكان».. وفاة مصممة فساتين الزفاف اليابانية ...
وفاة الكاتب الأميركي بول أوستر صاحب «ثلاثية نيويورك» عن 77 عاما
وفاة الكاتب الأميركي بول أوستر صاحب «ثلاثية نيويورك» عن 77 عاما
فوز الفنانة الفرنسية من أصل إيراني مرجان ساترابي بجائزة «أميرة أستورياس» للأدب
فوز الفنانة الفرنسية من أصل إيراني مرجان ساترابي بجائزة «أميرة ...
فرقة مسرحية بريطانية تجعل «الخشبة» منبرا لأصوات اللاجئين
فرقة مسرحية بريطانية تجعل «الخشبة» منبرا لأصوات اللاجئين
رغم العنف والفقر.. حي في بوغوتا يسعى إلى استقطاب السيّاح
رغم العنف والفقر.. حي في بوغوتا يسعى إلى استقطاب السيّاح
المزيد
الاكثر تفضيلا في هذا القسم