Atwasat

طَيُّ الزمن

عمر أبو القاسم الككلي الأحد 08 مايو 2016, 02:21 مساء
عمر أبو القاسم الككلي

أصبح مفهوم مابعدالحداثة مجالا للدراسات الأكاديمية منذ ثمانينيات القرن العشرين وانتشر عبر ميادين متنوعة تشمل الفن والعمارة والموسيقى والسينما والأدب وعلم الاجتماع والاتصالات والتقليعات [الموضات] والتكنولوجيا. ويصعب تحديد ظهور مابعدالحداثة زمانيا لأنها تخلقت تدريجيا في رحم الحداثة.

يثير مصطلح مابعدالحداثة، في حد ذاته، إشكاليات عدة من حيث علاقته بالحداثة. من ضمن هذه الإشكاليات: هل مابعدالحداثة تمثل قطيعة مع الحداثة أم أنها مرحلة عليا في تطورها؟ وإذا أسمينا المرحلة الحالية مرحلة مابعدالحداثة فماذا سنسمي المرحلة التي سوف تتلوها؟. بل إن الإشكالية تشمل حتى طريقة كتابة المصطلح في اللغات الأجنبية، فهل هو Postmodernism أم Post-modernism

بيد أنه ليس هدف هذا المقال الدخول في نقاشات حول تاريخية الظاهرة ومحتوى المفهوم وخصائصه، وإنما سنكتفي بالحديث عن جانب واحد من جوانب مابعدالحداثة هو ذلك الجانب المتعلق باختزال الزمن أو ما أحب أن أسميه" طي الزمن".

تاريخيا تطورت الحضارة البشرية، في جزئها الأساسي، من خلال تطور وسائل المواصلات [النقل] والاتصالات. فلقد كان اختراع العربات التي تتحرك على عجلات وتجرها الدواب ثورة هائلة في مجال النقل وحركة السوق والتواصل البشري. ثم قفز هذا التطور بعد اكتشاف قوة البخار واستخدامه في تحريك السفن وبعد ذلك القطارات. عقب ذلك جاءت السفن والقطارات الحديثة التي تعمل بالوقود، والسيارات والطائرات. كل اختراع من هذه الاختراعات "يطوي" الزمن ويوطد الاتصال بين البشر*.

إلا أن الطي الهائل للزمن حدث مع التطور في وسائل الاتصال. أي جهاز الإبراق والهاتف. ثم ظهر التلكس والفاكس، الذي أصبح ممكنا معه إرسال وثائق ممهورة بتواقيع أصحابها، وصار بالإمكان الاتصال شبه الفوري والفوري بين أشخاص تفصل بينهم آلاف الأميال. القفزة الأخرى حدثت مع ظهور الهاتف المحمول أو النقال بحيث صار بمستطاع أي منا التحدث إلى أي مكان في العالم في أي وقت شاء ومن أي مكان. بعد ذلك لم يعد هذا الطي مقتصرا على جهاز الإبراق والهاتف والتلكس والفاكس والهاتف المحمول، بل أصبح متاحا من خلال التواصل بالصوت والصورة عبر المسافات البعيدة بواسطة الإنترنت.

إن أجهزة الاتصال الحديثة، الأقمار الصناعية والانترنت، جعلت العلاقة بين البشر المتواصلين تحدث في نقطة خارج الزمن، إذا صح القول.

كنت مرة أشاهد قناة CNN الأمريكية وكان ثمة نشرة أخبار تبث من واشنطون وهونغ كونغ. قالت إحدى المذيعتين: صباح الخير، وقالت الثانية: مساء الخير. وكنت أنا في: بعد ظهر الخير. فالمذيعتان والمشاهدون في أصقاع الأرض كافتها التقوا في نقطة لازمنية. نقطة تعلو على الزمن. "فجوة سوداء" خارج الزمن تلتهمه التهاما.

وسائل الاتصال الحديثة أصبحت تمكن المعنيين من متابعة أحداث مهمة، بما في ذلك العمليات الخاصة والسرية، تجري على بعد آلاف الأميال. في كتابها" Hard Choices خيارات صعبة" أوردت هيلاري كلنتون كيف أنهم كانوا يتابعون مباشرة، من غرفة صغيرة في البيت الأبيض، من خلال الفيديو، عملية القبض على بن لادن في مسكنه في باكستان التي قامت بها مجموعة من قوة العمليات الخاصة. حدث خلل في العملية بحيث انعطبت إحدى المروحيتين واضطرت الثانية إلى النزول في غير المكان المحدد. " أخيرا أمكننا أن نتنفس [الصعداء]: مروحية بلاك هوك المعطوبة حطت على الأرض وقفز منها رجال العمليات الخاصة مستعدين للقيام بالاقتحام".

وهنا أيضا كان المشاهدون في زمن وعناصر الأحداث المشاهدة في زمن آخر، لكنهم كانوا يلتقون في نقطة خارج الزمن تمكن تسميتها "الزمن المطوي" أو"زمن مابعدالحداثة".

* هناك، بالطبع، جوانب سلبية لهذا التطور أبرزها الحروب وسهولة غزو أراضي الغير.