Atwasat

والألم أيضا لا دين له

سالم العوكلي الأحد 27 مارس 2016, 09:47 صباحا
سالم العوكلي

كمية الحزن هي نفسها على من يموت، أو بالأحرى يُقتل في ضاحية فقيرة في اليمن، أو في بيت متهالك في قرية سورية، أو على ضحية تلفظها أمواج المتوسط على الشاطيء لمهاجر يبحث عن الأمان، أو في مسرح باتاكلان بباريس أو في مطار ببروكسل. نحزن على فقد الأبرياء، أو غير الأبرياء، نحزن على قتل المدنيين أو العسكريين المرغمين على حمل السلاح دون أن يعرفوا المغزى من الحرب، فكل جثة مقطعة الأوصال خلفها كومة من الدموع، وكل فقد يصدع قلوب الأسرة أو الأصدقاء والأحباب.

وحين ندرك أن الحزن واحد ربما سندرك أن الشر الذي يقف وراء هذا الحزن واحد. لذلك لست مرتاحا، ولا اعتقد أن أي ضمير إنساني سيرتاح، لتلك الأخبار التي تعبر سريعا عن القتل والذبح في العالم النامي أو الثالث، وكأن الجثث المكدسة في هذا العالم الهامشي مجرد نفايات في مكان خارج التاريخ والجغرافيا مثلما كرسه ركام من حبر الاستشراق ومن الميديا العالمية التي تقسم مجتمع الضحايا إلى ألوان وطبقات.

لا أرتاح لهذا البرود تجاه ضحايانا وكأن قدرهم الطبيعي أن يكونوا ضحايا، بينما حين يعبر الإرهاب إلى الجنس الرفيع في أوروبا يتم التداول مع القتل كجريمة ضد الإنسانية والقيم الحديثة ويصبح الخبر مركزيا في كل نشرات الأخبار ويحس هذا العالم بأن ثمة شرا موجودا فعلا.

ربما الزمن الذي نعيشه ليس واحداً، والمكان ليس واحدا، لكن الحزن واحد، والضمير الإنساني من المفترض أن يكون واحدا.

الإرهاب لا يفرق بين الأجناس وليس له توجهات طبقية هو ليس كما يقال لا دين له لكن لا هدفا محددا له ولا زمنَ أو مكانَ

عندما كنا نتابع موجة الأفلام التي تتعاطى مع حرب الولايات المتحدة على فيتنام، كنا نتعرض لخداع بصري وعاطفي خبيث، يبدأ من رصد تفاصيل حياة الجنود الأميركيين الوسيمين الذاهبين إلى آخر الدنيا من أجل إنقاذ الكوكب من الشر، وهم يودعون أولادهم وزوجاتهم وعشيقاتهم وأصدقاءهم، ثم وهم في أدغال فيتنام الموحشة يبحثون في ثياب الريفيات الرثة عن الحلم الأمريكي صنيعة المخيال الإمبريالي النشط.

نرى على طول العمل الدرامي عشرات الفيتناميين وهم يتساقطون قتلى من فوق الأشجار دون أن نرى ملامحهم أو جراحهم أو تعبيرات وجوههم لحظة موتهم أو أية مرجعية إنسانية لهم، يتساقطون كالحيوانات المتوحشة التي تتربص بهؤلاء الجنود الطيبين، وتحرق قرى كاملة بسكانها الذين لم يسمعوا في حياتهم بأمة اسمها أميركا.. وبمجرد أن يُصاب جندي أمريكي وسط هذه الجثث التي تتكدس طوال العرض تلفنا لحظة صمت رهيب، وتوظف كل المؤثرات السمعية والبصرية لإجلال تلك اللحظة وإبطائها، وتعمل الموسيقى المصاحبة على استدراج الأدعية من قلوبنا بأن لا يموت هذا الجندي الأشقر الذي تنتظره عشيقته الجميلة على الضفاف البعيدة، فيخرج صورة زوجته وأولاده من جيبه ونحن لا نملك إلا أن نذرف الدموع مع صاحبه الذي يحضنه بين يديه، وننسى أن لمئات وآلاف الفيتناميين الذين سقطوا طوال الفلم زوجات ينتظرنهم أيضا وأولادا، وننسى أن هؤلاء الجنود الوسيمين هم غزاة جاءوا من آخر الأرض لقتل هؤلاء العزل في قراهم الفقيرة المسالمة، وننسى أنّا أمام لعبة قذرة تستخدم الفن والجمال في تشويه الضمير الإنساني وأدلجة الحزن.

وهذا الإعداد الفني الخبيث والحاذق لعواطفنا هو ما يجعل الآن حتى القنوات العربية تعيش حالة نحيب وحداد طويلة حين يكون الضحايا غربيين وسيمين في شوارع نظيفة ومترفة، وتمر مرور الكرام على الجثث المكدسة في أحياء اليمن وسوريا والعراق وليبيا، أو غيرها من الأمكنة، التي يكتسب فيها الإنسان رمزيته الهامشية مثل الفيتنامي في فلم أميركي يعرف كيف يجعل من الضمير الإنساني سلعة دعائية.

الإرهاب لا يفرق بين الأجناس وليس له توجهات طبقية. هو ليس كما يقال لا دين له لكن لا هدفا محددا له ولا زمنَ أو مكانَ، إنه يلتذ فقط بكونه إرهابا، ويضرب حيث تسهو عنه الكوابح الأمنية أو القانونية أو الأخلاقية.

ولأن الألم المترتب عنه هو واحد من المفترض أن يكون الحزن واحدا ومن ثم الاهتمام بالضحايا واحدا، وتجاهل تلك الجثث والأوصال المتناثرة جراءه في المناطق الفقيرة هو ما جعل منها جسرا للوصول إلى المناطق المترفة التي تتوقف عندها كثيرا وسائل الإعلام، وحتى وسائل إعلامنا العربية التي انتقلت إليها عدوى تهميش ضحايا الإرهاب لدينا.

ولا يكفي حجة الحديث عن كونه يأتي من الضواحي ومن الأحياء الفقيرة والمهمشة ليغدو هدفه المنطقي هو هذا الهامش نفسه، وليغدو إرهابا فعلا أو غير منطقي حين يمس المناطق الراقية.

هذا الانحياز الإعلامي الذي ينطلق من عنصرية مكبوتة أو من أخلاقية منحازة سيغذي بدوره الشر من داخله، ويجعل من الشماتة رد فعل لا أخلاقي تجاه ضحاياه المترفين، بل وسيذهب المحللون إلى أن العواصم الكبرى التي يضربها في أوروبا هي التي صنعت مخابراتُها تنظيماته لتدفع الثمن أخيرا، ورغم أن هذا التحليل المتداول بكثرة غير دقيق علميا إلا أن مساحة التشفي به كافية لتجعله مستساغا.