Atwasat

الحلم الأمريكي والكابوس القطري

سالم العوكلي الإثنين 07 ديسمبر 2015, 01:30 مساء
سالم العوكلي

خطأ دويلة قطر الأكبر من حجمها بآلاف المرات كونها تضع كل بيضها في السلة الأمريكية، تلك السلة المثقوبة التي كم تكسر فيها بيض الأصدقاء، مع أن مسألة الصداقة غير واردة في حكمة السياسة الأمريكية التي تقول"من ليس معنا فهو ضدنا" وبالتالي فليس أمام الآخرين سوى خيارين: إما أن يكونوا أعداء أو عملاء، وبأي حال من الأحوال ليس من الحكمة أن تعادي دولة كل محيطها من أجل تنفيذ سياسات دولة تبعد عنها حضارياً سنوات ضوئية، وجغرافيا عشرات الآلاف من الأميال، مقابل حماية هي في أخلاقيات أميركا مرتبطة بمصالح عادة ما تكون مؤقتة، لأن عملاء أميركا المتنكرين في شكل حلفاء كثيرا ما يتغيرون وحسب الظروف والمستجدات، ويعتمد منهجها الموضوعي على حرق العميل حين تفوح رائحته، والقذف به في القمامة حين تنتهي صلاحيته ولم يعد قادرا على تحقيق مصالحها.

وليس ببعيد إعطاؤها صدام حسين ترخيصا ليغزو الكويت الحليفة كي تضرب في الوقت نفسه؛ العصفور الاقتصادي الكويتي المغرد في أماكن محظورة، والعصفور العسكري العراقي الخارج متغطرسا من انتصاره على الجار الفارسي، وفي النهاية لاحقوا صدام في حفر العراق بعد أن خاض بالنيابة عنهم حرب عشر سنوات على إيران دفع فيها شعبه أكثر من مليون قتيل.

المليارات المكدسة لا تنقذ المراهنين بها حين تحين ساعة استبدال الثياب القديمة وإلا لكانت أنقذت القذافي أغنى حاكم في العالم من مصيره المأساوي

وفي جميع الأحوال لن تكون صداقة شيوخ قطر وشيخاتهم في مستوى تلك الصداقة وذاك الحلف الذي كان بين شاه إيران وساسة الولايات المتحدة الذين سحبوا البساط الفارسي من تحت أقدامه حين فاحت رائحته، وكل ما فعلوه عرفانا بجميله أن وفروا له ملجأ آمناً.

ولن تكون أكثر عائداً من حليفها القوي في منطقة الشرق الأوسط، حسني مبارك، الذي وضع هو الآخر بيضه كله في السلة الأمريكية، ولم يجد في النهاية سوى القشور المتناثرة على عتبات قصره حين أمره الرئيس الأمريكي بالتنحي فورا ليجد نفسه خلف القضبان هو وولي عهده وأسرته كلها، ولن تكون قطر مثل الحليف العضوي نورييجا الذي وصل لأن يصبح عضوا في المخابرات الأمريكية ثم لاحقه الأمريكان حتى غرفة نومه وحملوه مكبلا إلى مصيره المجهول إلى الأبد ليخرج فجأة من الخارطة السياسية في بنما وفي كل مكان، ولا حليفا مثل ماركوس الفلبيني الذي كان وسادة التعب الأمريكي في شرق آسيا واستراحتها التي تلتقط فيه أنفاسها من ملاحقة العدو الأحمر.

وحتى المليارات المكدسة لا تنقذ المراهنين بها حين تحين ساعة استبدال الثياب القديمة، وإلا لكانت أنقذت القذافي أغنى حاكم في العالم من مصيره المأساوي الذي لاقاه عن طريق حلفائه الذين عاد إلى حضيرتهم أخيرا كنموذج تائب، والذي سلم أمريكا كل مخزونه النووي في ساعات لينقذها من فضيحة تدخلها في العراق بحجة امتلاكها لأسلحة الدمار الشامل الكاذبة. القذافي الذي كان قابعا في معقله بباب العزيزية يعطي الملايين لزائريه من كل حدب وصوب، كما فعل الشيخ حمد ويفعل الآن وريثه تميم، ويضخ أسلحته في كل اتجاه ليشعل حركات التمرد والحروب في مناطق مختلفة من العالم.

لا صديق دائم لأمريكا ولا عدو دائم لها، ومن يأنس لمكرها السياسي كمن يأنس للماء في الغربال، هكذا يخبرنا تاريخها، وهكذا يخبرنا بصراحة نهجها البراغماتي المعلن، ومذكرات مهندسي سياساتها الخارجية.

لم يعد عداء قطر* مع أنظمة سياسية، سابقة أو راهنة أو لاحقة، لكن مع جل شعوب المنطقة التي ترى فيها أحد من يقفون بمثابرة خلف مصائبها، فالشعب المصري، الذي ينجب كل أسبوع ما يعادل الشعب القطري، يكره تدخلها في شأنه، وصداح قناتها الجزيرة بالفتن، ودعمها لجماعات القتل التي تهدد استقراره، والشعب السوري يعتبرها ممن يتحملون مسؤولية قتل ربع مليون ضحية وتشريد الملايين وتدمير كل مقدراته وبناه التحتية، رغم تلك الخطابات الجوفاء التي تحمل نظام بشار الأسد المسؤولية، فنحن لا نختلف عن كونه نظاما قمعيا لكنه كان أحد الحصون المنيعة ضد الإرهاب الذي تصدره السعودية وقطر، وكان يوفر الأمان والاستقرار والاكتفاء الذاتي لكل السوريين المتعايشين من جميع الطوائف والأعراق، ولم يسجل في تاريخ سوريا الحديث سابقة حرب أهلية أو مجاعة أو نزوح جماعي لولا تدخل قطر والسعودية وتركيا بالنيابة عن إسرائيل والقوى العظمى من أجل تفكيك الجيش الثاني المجاور لإسرائيل بعد تفكيك الجيش العراقي، ولا أحد كان يصدق أن تتجرأ دويلة بعمر شعبان عبد الرحيم على دول بعمر التاريخ، لولا اختيارها مخلبا ناعما للقوى الكبرى، وعلى رأسها أمريكا، لتنفيذ أجندات لا يراد بها أن تلصق بوجه أمريكا المليء بندوب التدخلات السابقة والذي وهبها ملمح المجرم المتسكع في الشوارع الخلفية في المنطقة، وبالتالي المقت الشعبي الواسع.

الشعب الليبي يكره قطر ويعتبر تدخلها السافر في شأنه مسؤولاً عن كل ضحاياه من الشباب والأطفال الذين يموتون يوميا بأسلحة وملايين قطر المسمومة التي تصب في الأرض الليبية، وبدعمها المعلن لأمراء الحرب الذين اكتسبوا خبرة القتال في جبال تورا بورا. وحتى أسرتها من دول مجلس التعاون الخليجي مرتابون من سياساتها المهددة لسلام الخليج نفسه.

ولن يشفع لها وساطاتها المشبوهة بين أطراف نزاع مختلفة، والتي تزيد من الشبهة العالقة بسياساتها الخارجية، وإلا ما معنى أن تكون الوسيطة بين لبنان وجماعات الإرهاب في سوريا لتبادل الأسرى، إلا إذا كانت لها الكلمة العليا على هذه الجماعات التي وضعها المجتمع الدولي في قائمة الإرهاب؟ وهل من حكومة تملك الكلمة العليا والأمر على جماعات خارجة على الأعراف والقانون إلا إذا كانت تدعمها، وما السر خلف استخدام أمريكا لها كوسيط أساسي في التفاوض بينها وبين طالبان؟ إلا إذا رأت فيها كل مقومات العميل المزدوج الذي اخترعته أفلام جيمس بوند المنتجة من قبل البنتاغون.

أقولها ولا أتمنى ذلك للرعية القطرية الطيبة ثمة مصير لا يطمئن يتعلق بوجود هذه الدويلة على الخارطة

العالم وخططه تتغير يوما بيوم، وفق ما يستجد على سطحه من متغيرات، تضع السيناريوهات البديلة في حالة تفعيل فوري كالضغط على زر آلة، فأي ملاحظ يرى أن أمريكا تُخفض الآن درجة اهتمامها بمنطقة الشرق الأوسط، فمنذ فترة قليلة كان يعني التعدي على نفط العراق أو نفط ليبيا تعديا على أمنها القومي، والآن لا تهتم بهذا المخزون وهو يقع تحت قبضة الجماعات المتطرفة والميليشيات ويخرج من السوق، بل إن أسعار النفط تتهاوى بقدر انحسار نفط الشرق الأوسط، لتصبح الأوبك منظمة هامشية تشبه اتحاد كرة مضرب أفريقي.

ويرجع هذا التراجع إلى متغيرات جوهرية أهمها دخول الإنتاج الهائل من النفط الصخري الأمريكي إلى السوق والذي سيغنيها عن نفط الشرق الأوسط، وبالتالي يمنحها حرية أكبر في تحالفات سياسية جديدة، تبدو معالمها من محاولة تصفية ملف إيران النووي، بحماس أمريكي وحنق خليجي، لتكون إيران المروضة على رأس هذه التحالفات الجديدة، لأن العقلية الأمريكية تفضل عدوا قويا على صديق هش ومتملق.

ستكتفي أمريكا ذاتيا من النفط والغاز الصخري على مدى عقدين كاملين كما يقول الخبراء، وستترك حماة الحرم الأمريكي الثالث في صحراء الخليج عراة من الحماية وفي مهب التغيرات التي ستشهدها منطقة تتنازع فيها أكثر من عشر قوميات رئيسية وعشرات الطوائف. حينها ستبقى قطر يتيمة على رصيف مهجور كلقيطة تخلت عنها مرضعتها بعد أن ورطتها في أحقاد مع كل الجيران، لأن قطر مجرد قطرة في محيط التلاعبات السياسية والأمنية بمنطقة الشرق الأوسط، لكنها قطرة سامة.

أقولها، ولا أتمنى ذلك للرعية القطرية الطيبة، ثمة مصير لا يطمئن، يتعلق بوجود هذه الدويلة على الخارطة، إذا لم تعد عودة الإبنة الضالة إلى حضنها الطبيعي في المنطقة وتصلح ما خربه طيش المراهقة السياسية من علاقات طبيعية مع العائلة والجيران.

* استخدمت اصطلاح (قطر) في الوقت الذي من المفترض أن استخدم قادة قطر أو حكومتها أو شيوخها الذين يديرون سياستها وليس شعبها، ولكن ما يرسخ في ذهني أنها إقطاعية نفطية أو غازية (كما كانت ليبيا سابقا) تملكها عائلة بكل من وما عليها، لذلك فمفهوم الشعب والحكومة أو المؤسسة ليست واردة في مجتمع يتكون من عائلة راعية ورعية. وتجاوزا استخدمت اصطلاحات مثل دولة أو دويلة.