Atwasat

الثورة المسروقة: من الفيس بوك إلى الفيس (بوكا)

سالم العوكلي الإثنين 17 أغسطس 2015, 09:20 صباحا
سالم العوكلي

على مر التاريخ شكلت منظومة التواصل بين أفراد المجتمعات الطريقةَ الناجعة للحوار والحشد، لذلك كان مبدأ النظم الشمولية هو السيطرة على نظم الاتصال وتحجيمها ومراقبتها، فكلما زادت عزلة الأفراد والمناطق عن بعضها كلما أرست الأنظمة دعائم دكتاتورياتها.

قال مرة وزير المواصلات في إحدى حكومات الاتحاد السوفياتي لستالين: وضعنا خطة بموجبها سيكون خلال 4 سنوات جهاز تلفون في كل بيت في الاتحاد السوفياتي. فرد عليه ستالين غاضبا، ماذا تفعل؟ هل تسعى لنهايتنا؟.

اعتمدت الميكرودكتاتورية في ليبيا على عزلة مناطقها ومدنها المختلفة، وعلى توزع سكانها القليلين في جغرافيا شاسعة تمنع أي تصور لحشد خطير يهدد سلام النظام، وهذا ما صرح به يوما مؤسس هذه الميكرودكتاتورية.

ومنذ الربع الأخير من القرن العشرين بدأ الحديث مطردا وحماسيا عن ثورة جديدة هي ثورة المعلومات أو الاتصالات، وكلٌ كان يقرأها من زاويته، رابطا آفاقها بالعولمة، أو بهيمنة السوق، أو بتصدع مفهوم السيادة الوطنية، لكن في منطقتنا التي ترزح تحت دكتاتوريات مختلفة ومتفاوتة كان الحديث عن ثورة جديدة من شانها أن تزرع ألغاما غير مرئية تحت هذه المنظومات الأمنية المحكمة المعتمدة على العزلة وعلى سيطرتها على مصدر الخبر، وأذكر أن محمد الرميحي رئيس تحرير مجلة العربي الكويتية كتب مقالا في نهاية الثمانينيات عن أفق هذه الثورة التي ستجتاح مناطق الاستبداد، ولن تُبقي إلا جيوبا قليلة معتمة ستتهاوى مع الوقت.

عندما صمم مارك زوكربيرغ موقع الفيس بوك التواصلي لم يكن يفكر في كل التداعيات اللاحقة، فهو مراهق عبقري أراد لطلاب جامعته أن يتواصلوا عبر هذا البرنامج الإلكتروني، لكن الفيس بوك خرج عن السيطرة واجتاح العالم حتى وصل إلى طبقاته الفقيرة، وخلق هذا العالم الافتراضي الشاسع الذي يعمل بمثابرة في طبقة غير مرئية تحت العالم الواقعي، الذي كان آنذاك ينظر إليه كإحدى ألعاب البلاي ستايشن التي تجتاح فراغ الشباب في العالم.

في الثمانينيات بدأنا نسمع باختراع اسمه الساتلايت، يلتقط عشرات القنوات بشكل رقمي، واضح الصورة لا تؤثر فيها الغيوم العابرة، كنا وقتها تحت سيطرة قناة ليبية واحدة يتحكم فيها مزاج الدكتاتور ويسيرها عبر الهاتف بجانب سريره في باب العزيزية، وفي الصيف كنا نلاحق بهوائيات الويزي ما يجود به صفاء الطقس من قنوات إيطالية أو يونانية، ورغم عدم إجادتنا لهذه اللغات إلا أن الكثيرين كانوا إما يتابعون أفلاما غريزية لا تحتاج إلى لغة، أو مباريات في كرة القدم، أو مجرد استمتاع بتلك الألوان البراقة والنساء اللائي كأنهن هابطات من الجنة أو الجحيم.

وكان فصل الشتاء يعني العودة إلى قناتنا الكئيبة، حين تحجب الغيوم المتراكمة فوق المتوسط سيل تلك الصور المرحة.

سمعنا بالساتيلايت الذي كان ممنوعا حينذاك وهو يحتاج إلى صحن كبير لا يمكن إخفاؤه، ورويدا بدأ السماح به تدريجيا وبحذر، لكنه كان محتكرا للأغنياء بسبب تكلفته العاليةـ غير أن جهاز البث المكاني الذي من الممكن أن يتصدق على الجيران الفقراء بهذا الاختراع، بدأ في الوصول، ومعه بدأت تملأ السوق هوائيات صغيرة خاصة بالتقاط بث ما يجود به الكرام ممن يملكون الساتيلايت، وأطلق اللسان الشعبي على هذه الهوائية اسم(السراق) في أول خطوات ترويض مفردة السراق التي أصبحت فيما بعد مفردة دارجة إبان انتشار الفساد حيث ما عادت السرقة تشكل آفة اجتماعية، بل أصبحت مرادفا لغويا وقيميا للشطارة.

لكن السوق التي تسعى لاجتياح العالم عملت بحماس على تقليص تكلفة هذا الاختراع حتى أصبحت الصحون تزاحم خزانات المياه على كل سطح.

كثيرًا ما يفند العلم والاختراعات الكثير من المسلمات الاجتماعية أو الدينية. من فترة شاهدت برنامجا وثائقيا عن فلاح في الريف الأميركي، كانت زوجته تخيط في الشرفة بإبرة وتحتها كومة قش جاهزة لعلف الأبقار، فسقطت منها الإبرة في كومة القش، وخوفا أن تبتلعها إحدى البقرات أحضر الفلاح آلة ومرر بها القش وخلال وقت لا يتجاوز الخمس دقائق علقت الإبرة بمغنطيس قوي في الآلة، ضحكت وأنا أرى أشلاء المسلمة العالمية التي نستعين بها حين نتحدث عن المستحيل: كالباحث عن إبرة في كومة من القش.

كان يدور لدينا مثل شعبي يبدو أنه اجترح بعد مجيء التلفونات التقليدية، يقول المثل: تلفون يرن على قاعة، كتعبير عن الشيء المستحيل، والقاعة هي البقعة الصخرية التي يوضع عليها جرن السنابل في المناطق الزراعية البعيدة عن المدينة والتقنية. ثم حان لأشلاء هذا المثل أن تتناثر عندما أصبح الموبيل يغرد بأنغامه فوق القاعة وفي جيوب الرعاة في الوديان، وفي قبضات الباعة الأفارقة على الرصيف، وهو مثل الساتيلايت بدأ في عقد التسعينيات محتكرا لدى الأغنياء فقط الذين كانوا يتباهون به، ويحملونه في جيوبهم كبطاقة انتماء لنادي المليونيرات.

علّم هذا الجهاز الصغير الليبيين، المشهورين بالثرثرة، الاقتصاد في الكلام، حين أدركوا أن الكلام أصبح بفلوس، لكنه كثف حالة التواصل بين الأفراد المنتشرين في هذه الرقعة الشاسعة، وأضفى على علاقات الحب رومانسية جديدة تتعلق بتلك الرسائل التي تتسلل إلى أسرة العشاق دون وسيط ودون مخاطرة.

السؤال الذي يطرح نفسه: كيف سمحت هذه الأنظمة الشمولية، التي تتبنى حكمة ستالين، بانتشار هذه التقنيات المعلوماتية والاتصالية التي تهدد الأساسات التي بنيت عليه دكتاتورياتهم.

الإجابة شائكة، لكن السوق المهيمنة، والتي تضاعف أرباحها بقدر مضاعفة سبل الاتصال بين المستهلكين، كانت وسيلة الضغط العالمي من أجل أن تفتح هذه النظم المعزولة أسواقها للقدر الجديد، هذا من جانب، ومن جانب آخر رأت هذه الأنظمة في هذه التقنيات وسيلة جديدة للتحكم ومراقبة ما يدور في أذهان الناس، وبها أصبح من الممكن أن يكون حديثهم في متناول التقنيات المركزية التي تُسيّر منظومات الاتصال المختلفة، وهذا ما أصبح يحدث الآن حتى في الدول الديمقراطية، لتدخل القاموس السياسي والتجسسي مصطلحات مثل التنصت والتلصص على المكالمات أو البريد الإلكتروني أو صفحات التواصل الاجتماعي، وأصبح هذا الصخب الكوني وحتى المحادثات الحميمية في متناول هذه المراكز الكبرى التي تكفلت بها شركات تتعاقد بالمليارات من أجل اختراق خصوصيات البشر.

أصبحت هذه التقنيات لعبة الأنظمة في تعاملها مع الرأي العام، لكن هذه الألعاب مثل التقنيات الجينية أو الوراثية التي قد تفرز كائنا جديدا يخرج عن السيطرة فيدمر كل شيء، وكان الفيس بوك كموقع تواصل اجتماعي ضخم هذا الكائن الأسطوري الجديد. عن طريقه يمكنك أن تلبس طاقية إخفاء وتهاجم كل مقدسات الأنظمة التي كان يصعب مساسها، وتصدع هذه القداسات بالنقد والسخرية والتهكم أول خطوات ثورة المعلومات في اكتساح جيوب الاستبداد المعزولة والتي ارتكبت خطأها التاريخي، وإن كانت مرغمة، وفتحت هذا الفضاء الأسطوري للمقهورين العاجزين عن التعبير، ومع الوقت لم يكتف النت بكونه أداة للتعبير الحر، لكنه عبر مواقع التواصل أصبح أداة ممكنة للحشد.

حين قامت مظاهرات سيدي بوزيد في تونس كانت في البداية مجرد تجمعات تقليدية ضد البطالة والتهميش، وكان يحدث مثلها في ليبيا، حيث تقفل الطرق بالإطارات المحروقة كلما تأخرت مرتبات المحالين على الخدمة العامةـ الإسم المهذب للبطالةـ أو حين تسوء خدمات بعض الأقسام الداخلية، أو تتأخر منح الطلاب، وتنتهي المسألة بتحويل المرتبات والمنح المتأخرة إلى المصارف.

لكن في تونس، ووسط القش الجاهز للحريق، ومع اختراع جديد اسمه الفيس بوك، وقعت حادثة استثنائية. شاب يحرق نفسه بسبب صفعة شرطية تابعة للبلدية، في مجتمع تقول تقاليده أن من تصفعه امرأة لا يستحق الحياة، والجديد أن هذا المشهد كان معززا بكاميرا موبيل التقطته لحظة غروب الشمس وهو يركض أمام البلدية في كتلة من اللهب، والجديد أن هذا المقطع السينمائي انتشر في صفحات الفيس بوك مثل الهشيم، وبانتشاره انتشرت المظاهرات في كل مدن تونس تقريبا، خصوصا وأن الأمر متعلق بمفهوم كان منسيا في شارعنا وهو الكرامة الشخصية التي سرعان ما حولتها كيمياء الفيس إلى كرامة جماعية، وخرج الأمر عن السيطرة وبدأ الحريق الذي لم تقدر زيارة زين العابدين الاستثنائية لبوعزيزي في فراشه بالمستشفى على إطفائه. وبدأت ثورة الياسمين بهتافها النثري الشهير: الشعب يريد إسقاط النظام، وسرعان ما استجاب القدر لإرادة الحياة عبر طائرة تقلع في جنح الليل بأول حاكم عربي يهرب من الحشود الثائرة.

انتقلت العدوى إلى مصر، وحدد شباب الفيس بوك والتويتر يوم عيد الشرطة موعدا لبداية الانتفاضة المصرية، حاول النظام المصري أن يتدارك أخطاء النظام التونسي، وقطع الاتصالات والنت، لكن المارد خرج من قمقم الفيس ولا سبيل لعودته- خصوصا بعدما أصبح قطع النت جريمة ضد حقوق الإنسان- وفي أعلى سارة بميدان التحرير رفرف علم الفيس بوك بجانب العلم المصري، ليتنحى الحاكم الثاني متجنبا ذل الأول برفضه الخروج من مصر، والذهاب إلى منتجع شرم الشيخ بما يشبه إجازة المتقاعد بعد دهر من العمل.

بعد سقوط زين العابدين بدأ الحراك الليبي في مواقع التواصل بسرعة وإن كان بحذر كبير وبانضمام متواضع لصفحة جديدة اسمها انتفاضة 17 فبراير، واختِير الموعد باعتباره ذكرى القتلى الذين سقطوا قبل خمسة أعوام قرب القنصلية الإيطالية ببنغازي، حيث بدأت المظاهرة كاحتجاج على صور مسيئة لنبي الإسلام نشرت بصحيفة دنماركية. كانت المظاهرة بتشجيع وتحريك من أجهزة النظام السرية، وسبب توجهها إلى القنصلية الإيطالية هي كون النظام أرادها احتجاجاً من الشعب الليبي على صور نشرت في النت في إيطاليا مسيئة للساعدي القذافي، لكن السحر كاد أن ينقلب على الساحر، فخرج الأمر عن السيطرة وسقط الضحايا في شارع عمرو بن العاص.

تحديد موعد الانتفاضة الليبية في الفيس سبب ذعرا للنظام وأربكه، خصوصا بعد تنحي حسني مبارك، فبدأ النظام الذي كان مطمئنا للشارع الليبي الخامد، ولعدم وجود كثافة سكانية، ولترسانة المال والأسلحة التي يملكها، بدأ بارتكاب أخطائه اليومية التي كانت تصب الزيت على النار.

هاجم القذافي متهكما أثناء االثورة التونسية الفيس بوك وكلَّ ما يمت للنت بصلة، لكن مواقع الاتصال ازداد نشاطها وازداد صدامها مع الجيش الإلكتروني الذي أسسه تقنيو النظام لمواجهة ميليشيات الفيس المتمردة.
وبسبب خبط عشواء النظام بدأت الانتفاضة في بنغازي قبل يومين من الموعد المحدد، وانطلق سريعا هتاف: الشعب يريد إسقاط النظام من ميدان الشجرة في بنغازي. يقول السيد عبدالجليل، رئيس المجلس الانتقالي السابق، في حوار أجريناه معه لجريدة ميادين، ما مفاده: أنه بعد الانتفاضة بيومين حضر اجتماعا لأمانة اللجنة الشعبية العامة بطرابلس، وأثناء الاجتماع قال مسؤول الأمن: نحن كنا جاهزين ليوم 17 فبراير لكن تسبيق الموعد أربك حساباتنا وحراكنا المضاد.

وقطع النظام الاتصالات والنت، لكن المارد خرج من القمقم ولا سبيل لعودته. غير أن المختلف في ليبيا هو أن الفيس بوك، وطبقته من الشباب وغير الشباب التقنيين، أشعلوا الانتفاضة التي سرعان ما تعسكرت، فتحولت كل تلك الثورة المعلوماتية إلى متابعة جبهات القتال، وظلت الميادين مجرد أوعية خرساء(بمفهوم العمل المدني) من البشر مهمتها رفع معنويات المقاتلين وتحفيزهم بالأدعية والتكبير والزغاريد.

عسكرة الثورة كانت الخطأ التاريخي، وهو الخطأ الذي ندفع ثمنه حتى الآن، فعبرها تحولت انتفاضة شعبية إلى حرب أهلية عززت الانقسامات والأحقاد، وعبرها تدخل الناتو الذي لم يسجل في تاريخه أي تدخل ناجح، وعبرها أصبحت ليبيا ساحة مفتوحة لدويلات مثل قطر والسودان تضخ الأسلحة والمقاتلين إلى حربنا الأهلية، وعبرها تراجعت الكفاءات السياسية إلى الخلف وتصدر المشهد أمراء الحرب الذي يقتاتون بها ولا يريدون لها نهاية، وعبرها أصبح جل المجتمع يحتاج إلى إعادة تأهيل نفسي، وعبرها احتكر الثورة ومصطلح الثوار مقاتلو الجبهات الذين تكاثروا بشكل خرافي من باب أن كل أمير حرب يريد تقوية جبهته بالجند والعتاد.

نسينا في لحظة أنها ثورة فيس بوك بامتياز، بدأها شباب الطبقة الوسطى الناشئة، إن صح التعبير، لكنهم، وأمام صخب الرصاص، عادوا ثانية لمعتكفاتهم خلف الشاشات الصغيرة يتابعون ما يحدث عن بعد، ويسخرون من الفساد والنظام الاستبدادي الجديد الذي جاء عبر انتخابات حرة ونزيهة.

ربما هذا كلام فات موعده أو جدواه، لكنه موجه لمن يتاجرون بمصطلحات الثورة والثوار، واختزالهم للثوار في من يحملون السلاح. أقول لهم كفاكم مضغا لهذه المصطلحات، فما حدث في ليبيا بدأ كثورة لمدة شهر، ثم تحول إلى حرب أهلية بمجرد دخول القوى الغربية إلى المشهد، حرب أهلية بين طرف مدعوم بالناتو وأموال قطر، وطرف آخر مدعوم بأموال النفط ومتهم بأنه من يجلب المرتزقة.