Atwasat

ترحال: جنون العظمة

محمد الجويلي الثلاثاء 14 يوليو 2015, 01:49 مساء
محمد الجويلي

العرب الذين عرفوا قديمًا بجنون الحبّ، ومازالت الإنسانية تعترف لهم بالريادة في ذلك وبارتقائهم بهذا الجنون إلى أرقى درجات الإبداع، كما يتجلّى ذلك في أشعار شاعرهم الكبير مجنون ليلى التي عمل المستعرب الفرنسي أندريه ميكال (André Miquel) صاحب مجلّد تاريخ الأدب العربي على أن يترجم باقة منها إلى الفرنسية ويقدّمها باعتبارها من أجمل ما جادت به قريحة الإنسان في موضوع الحب على مرِّ التاريخ، صاروا اليوم، على عكس ما كان عليه حالهم بالأمس البعيد، مصابين بداء عضال يمكن أن نسمّيه «جنون الكراهيّة» الذي ما انفك يستفحل في شبابهم دون، غيره من شباب الشعوب الأخرى، وهو في حقيقة الأمر ليس إلّا عرضًا من أعراض مرض تواضع علماء التحليل النفسي على تسميته «جنون العظمة».

يصيب جنون العظمة في الأصل أفرادًا بعينهم نتيجة عُـقدٍ نفسيّة دفينة لم يستطيعوا فكّ ألغازها والتخلّص من عواقبها وهي عبارة عن بويضات تشكّلت في طفولتهم السحيقة لم يقع القضاء عليها باكرًا، فتفرّخ عند الكبر وتكبر مع صاحبها وتصيِّره عبدًا لها تسيِّره كما تشاء، كائنًا لاسوي يؤذي نفسه ومَن حوله.

ويصاب بهذا الداء أناس عاديون يظلّ خطر عواقبه محدودًا في إطار الأسرة والعمل مثلاً، كأن يتضرّر من المصاب به زوجته وأبناؤه أو العاملون معه أو تحت إمرته وتتفاوت الأضرار بتفاوت حدّة المرض واستبداده بصاحبه، وهنا يمكن أن أسوق أمثلة من الحالات التي أعرفها كأن يصرّ شخص من العوام وهو مازال على قيد الحياة أن يطلق كلّ واحد من أبنائه الذكور الخمسة اسمه «الحفناوي» (1) على مولوده البكر حتّى وإنْ صار هذا الاسم العتيق لا يتلاءم مع مواليد العصر ويرفضونه، على خلاف ما جرت به العادة أن يسمّي الرجل ابنه باسم والده في حالة وفاته ويجبرهم على ذلك بالمساومة العاطفيّة والتهديد بأن لا يرضى عنهم في حالة عدم الاستجابة لطلبه، وهو ما تمّ له.

جنون العظمة تتعاظم خطورته عندما يصيب أشخاصًا مهتمين بالشأن العام ويتحملون مسؤوليات كبرى في إدارته من رجال الحكم ونسائه

يمكن أن يصيب هذا الداء مثقفين وأساتذة جامعيين كبارًا وعلى سبيل الذكر، لا الحصر، أستحضر مثال أستاذ يمشي الخيلاء حتّى تخال أنّه يحمل الكرة الأرضيّة على قرنه، اختصاصه في النحو العربي وهو ضليع في ذلك، دون أدنى شكّ، ولكنّه يتصرّف وكأنّه عالم في الفيزياء النوويّة والمسؤول الأولّ عن أكبر منشأة نوويّة في الكون، بانفجارها ستنفجر الكرة الأرضيّة برمّتها، فيهتف لك مع الساعة الواحدة ليلاً فتنهض مذعورًا ويبادرك دون سلام أو كلام بالقول إنّ كارثة قد حلّت، فإذا بك تعتقد في تلك اللحظة أنّ السماوات أوشكت أن تطبق على الأرض إلى حين يعلمك أنّه وقع خطأ في امتحان الطلبة الشفوي المبرمج لذلك اليوم صباحًا بإدراج «كشّاف اصطلاح الفنون» للتهانوي عوض «لسان العرب» لابن منظور ويهدّد بمعاقبة كلّ مَن له مسؤولية في ذلك ويدعو إلى اجتماع طارئ لتدارس هذه القضيّة رغم أنّ المسألة لا تستدعي كلّ هذا الاستنفار وإيقاظ مواطن يغطّ في سبات عميق في الهزيع الأخير من اللّيل وإرهابه ولا تتطلّب أكثر من محو «الكشّاف» صباحًا ووضع «اللسان» في ورقة الامتحان مكانه. كما يمكن أن يصيب هذا الداء فنّانين وشعراء، وهنا لا بدّ من الإقرار- وربّ ضرّة نافعة- بأنّ جنون العظمة في هذه الحالة هو القادح الإيجابي لإبداعهم وتميّزهم، بشرط ألّا ننقّر في حياتهم الشخصيّة والاجتماعيّة بحثًا عن تأثيراته السلبيّة على علاقاتهم بمحيطهم الإنساني. ومن أشهر هؤلاء في التاريخ العربي كما يعلم الجميع أبو الطيب المتنبّي، لا لادّعائه النبوّة فقط، والعهدة على الرواة وكتّاب التراجم القدامى، وإنّما من خلال النظر في أشعاره التي تبيِّن، دون لبس، إصابة هذا الشاعر الذي ملأ الدنيا وشغل الناس في عصره ومازال يملؤها إلى اليوم في الجامعات العربية لدى دارسي الأدب القديم، به. ويكفي أن نستحضر قوله «أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي- وأسمعت كلماتي منْ به صمم» والبيت الآخر الذي عانق فيه الألوهية ذاتها وتجاوزها «كلّ ما خلق اللّه ولم يخلق محتقر في همّتي كشعرة في مفرقي» حتّى نتبيّن ذلك.

هتلر.. يعود له الفضل في دفع علماء التحليل النفسي ذوي اللسان الألماني إلى التركيز على شخصيته وتشخيص مرضه الذي قد يُصاب به غيره وإطلاق تسمية «جنون العظمة» عليه

غير أنّ جنون العظمة تتعاظم خطورته عندما يصيب أشخاصًا مهتمّين بالشأن العام ويتحمّلون مسؤوليات كبرى في إدارته من رجال الحكم ونسائه، في هذه الحالة يصبح لهذا المرض انعكاسات الكارثة العظمى على المجتمع، بل، في الحالات القصوى، على العالم بأسره. وأفضل مثال على ذلك هو هتلر الذي يعود له الفضل في دفع علماء التحليل النفسي ذوي اللسان الألماني وأوّلهم فرويد(Freud) مبدع هذا العلم، خاصة أقطاب مدرسة فرنكفورت مثل إريك فروم (Eric Fromm) إلى التركيز على شخصيته وتشخيص مرضه الذي قد يصاب به غيره وإطلاق تسمية «جنون العظمة» عليه. ففي اليوم نفسه الذي اعتلى فيه هتلر سدّة الحكم كتب فرويد قائلاً: «كلّنا مشغولون بما سيصير عليه برنامج المستشار هتلر الذي ليس له رؤية سياسيّة، ماعدا التحريض العنصري على الكراهيّة والعنف» قبل أن يضيف: «في ما يتعلّق بالمثال الألماني، نلاحظ نكوصًا رهيبًا نحو همجيّة تكاد تكون ما قبل تاريخيّة» وفي 10 يونيو1933 «إنّ ألمانيا هي أسوأ زنزانة في هذا العالم الذي تحوّل إلى سجن كبير» (2)، أسباب هذا المرض، كما أشار إلى ذلك «إريك فروم» من خلال قراءته لبعض المقاطع من كتابه «كفاحي»، تتمثّل في أنّ هتلر مصاب بجنون العظمة لكونه لم يتجاوز المرحلة الشرجيّة (The anal stage) ولم يحلّ عقدة أوديب في نفسه وزحزح رغبته المحرّمة نحو والدته على ألمانيا كلّها وأسقط كرهه لوالده وحقده عليه على اليهود والساميين والعالم بأسره(3) أمّا أعراضه فهي نفسها في هتلر أو في غيره هي التي وقع تشخيصها في مدوّنات الطبّ النفسي في باب «الفصام الذهاني الهذياني» Paranoid schizophrenia وتتمثّل في هذيان متعلّق بإحساس غير مبرّر بالاضطهاد أو شعور بالعظمة أو الاثنين معًا يصاحبه شعورٌ بقلق متعاظم باستمرار وغضب شديد ونزوع نحو الكراهية والحقد والتعصّب لفكره والمطالبة الهذيانيّة باسترداد حقّ مغتصب، وهي عوامل من شأنها أن تهيّئ المصاب به إلى ممارسة العنف بما في ذلك في أرقى أشكاله القتل والانتحار حتّى وإنْ كان هذا الداء لا يخلّ بمداركه العرفانيّة ولا يمنعه من التصرّف بصفة عاديّة في حياته اليوميّة (4).

أمّا في التاريخ العربي المعاصر، فمجانين العظمة من رجال الدولة واللّادولة كثر. ويكفي أنّ نشير إلى شخصيتين تبدوان، في الظاهر، على طرفي نقيض ولكنّهما يلتقيان في الإصابة بهذا الداء، حتّى وإنْ كان جنون الأوّل ليس باديًا للعيان وأقلّ ضررًا بكثير من جنون الثاني ويمكن اعتباره أقرب إلى جنون المتنبّي الإبداعي الذي غنمت منه تونس، على الأقلّ، التعليم والصحّة وتأسيس مشروع دولة مدنيّة حديثة لم يكتمل إلى اليوم كما غنمنا نحن العرب جميعًا من المتنبّي المدرسة الشعرية الأولى التي كان آخر خرّيجيها الكبير محمود درويش، وهو بالطبع بورقيبة الذي كان يعتقد أنّ تونس كلّها بأرضها ومن هبّ ودبّ عليها هي ملكه الشخصي- ولعلّه لهذا السبب لم يملك فيها عقارات ولا قصورًا- وأنّ البلاد تحيا بحياته وتموت بموته.

عاقبة جنون العظمة وخيمة، فصاحبها إما يموت محاصَرًا منتحرًا أو مقتولاً شر قتلة أو متروكًا لحاله في أرذل العمر

فنصّب نفسه رئيسًا مدى الحياة ولم يقرأ باكرًا- وهو المتيّم بحبّها والمستشرف الكبير للمستقبل بتنبّوئه بهزيمة هتلر قبل ثلاث سنوات من حدوثها وبهزائم العرب كلّها بما في ذلك هزيمتهم في فلسطين وخسارتهم المزيد من أراضيهم- الحساب لما سيؤول إليه حالها بعده ولم يستشرف، تبعًا لذلك، مصيرها ولا مصيره هو ذاته بأن يطرد من قصر قرطاج ويخرج منه من الباب الصغير ليترك أهل البلاء في بلائهم إلى اليوم. والثاني بالطبع هو معمر القذافي وعوارض جنون العظمة كانت بادية عليه ولا تستحق مهارات طبيب نفسي لاكتشافها سواء في مظهره: تطاوسه وكبريائه ولهثه وراء عظمة وهميّة بتنصيبه لنفسه «ملك ملوك إفريقيا» ورئيسًا للولايات المتحدة الإفريقية التي لم توجد في يوم من الأيّام خارج تخيّلاته وأوهامه المرضيّة، وهي عوارض وقف عليها المثقّف والكاتب الليبي محمد عبد المطّلب الهوني وأحسن تلخيصها قائلاً: «فمنْ يعرف القذّافي لا يمكن أن يقترح عليه شيئًا، فهو المفكّر الوحيد، والمهندس الأروع، والأديب الأعظم، والرجل الأكثر فحولة، والفيلسوف الأكثر حكمة. أي أنَّه نصف إله، فكيف لمخلوق بمثل هذه الصفات أن يستشير مخلوقات بشريّة يعتريها النقصان مثلنا»(5).

عاقبة جنون العظمة وخيمة. فصاحبها إمّا يموت محاصَرًا منتحرًا أو مقتولاً شرّ قتلة أو متروكًا لحاله في أرذل العمر يتجرَّع مرارة خيباته وانكساراته «الدز بعد العز» كما يقول التعبير الشعبي، والأخطر من كلّ ذلك أن يحكم على ملايين الناس بالموت ويؤسّس للخراب، إذا خرجنا من السياق الفردي إلى السياق الجماعي نلاحظ أعراض جنون العظمة على أمّة تعتقد واهمة أنّها أفضل أمم الأرض قاطبة وهي في الدرك الأسفل في سلّم الأمم تلوك أمجادها القديمة وتتعامى عن انحطاطها الرهيب المرعب، قلقة متوتّرة غاضبة وحانقة حنقًا شديدًا تهذي هذيانًا مسترسلاً يصاحبه شعور حاد بالاضطهاد لا تلد للحياة أكثر ممّا تلد للموت والخراب، تفرّخ منذ سنوات للآلاف من أبنائها الذين لا مشروع لهم عدا الكره والقتل، فتلك هي الطامة الكبرى التي نعيشها ولعلّنا سنعيشها لسنوات طويلة.

__________________________________________
1)  اسم متداول قديمًا في البيئة الزراعية التونسية يطلق على المولود من باب التبرّك بأن يكون طالع خير وصابة: أن يحفن القمح والشعير حفنة حفنة دلالة على الوفرة.
René Major, « Michel Onfray ou la folie raisonnante » in Libération, 26 Avril, 2010  (2
0livier Postel-Vinay, « Sur la Pathologie d’Hitler »in Books revue, Numéro 51,Février 2014  (3-
4)  المرجع نفسه.
5)  محمد عبد المطلب الهوني، سيف القذافي: مكر السياسة وسخرية الأقدار، الرياض، دار مدارك للنشر، فبراير-2005 ، ص.94