Atwasat

الحنين إلى الطاغية

محمد الجويلي الإثنين 29 يونيو 2015, 08:22 مساء
محمد الجويلي

إذا كان ثمّة جرم لا يضاهيه أيّ جرم آخر خطورة ارتكبته النخب السياسيّة، سواء تلك التي تربّعت على سدّة الحكم أو التي انخرطت في النظام السياسي الفتيّ دون أن تحكم، خلال الأربع سنوات الأخيرة التي تلت سقوط نظامي القذافي وابن علي في كلّ من ليبيا وتونس، على وجه التحديد، بهفواتها وعثراتها المتعدّدة، تارة عن قصد واختيار أيديولوجي وفكري، وطورا عن غير قصد، ولربّما عن حسن نيّة اندفاعًا من أجل تحقيق سريع لديمقراطيّة لا تتوافّر لها أرضيّة اقتصادية واجتماعيّة وثقافيّة مهيّأة للنموّ، هو إحياء الحنين إلى الطاغية، إلى الرجل القويّ الحاكم بأمره القادر على «حماية البيضة» بلغة القدامى وتوفير الأمن والحدّ الأدنى من الغذاء.

وفي الحقيقة لم ير الناس، إلى حدّ الآن، من مظاهر الديمقراطيّة إلّا حريّة التعبير والكلام التي كانت ضريبة الانتشاء بها دون أن تصاحبها إنجازات تنمويّة واقتصادية، غالية من الدماء والتفكّك الاجتماعي وانحلال الدولة وضعفها وغياب سلطة القانون والردع، هذه الحرية التي هي، بكلّ تأكيد، من مشاغل المثقفين وليست من الضروريات بالنسبة إلى الناس العاديين المشغولين بغذاء أطفالهم وأمنهم حتّى وإنْ كان جني ثمراتها مضمونًا للجميع، لكن على المستوى البعيد دون أدنى أيّ شكّ في ذلك كما يثبت ذلك تاريخ الشعوب.

المواطنون يتذمّرون من الإسهال الكلامي في القنوات التلفزيونيّة ويدعون إلى إلجام الخواص والعوام عن الكلام وإلى قول ما قلّ ودلّ والانصراف

بدِأ المواطنون يتذمّرون من الإسهال الكلامي في القنوات التلفزيونيّة ويدعون إلى إلجام الخواص والعوام عن الكلام وإلى قول ما قلّ ودلّ والانصراف، بدلاً عن ذلك، إلى الفعل والعمل، ولا شيء غير العمل، وصاروا تدريجيًّا يطالبون بإجراءات عمليّة من شأنها أن تنهض بمقومات وجودهم وخاصة توفّر لهم الأمن أمام تفشّي الجريمة والإرهاب في البلدين، وإنْ بدرجات متفاوتة. فبعد انقضاء النشوة الأولى بإسقاط النظامين والفرحة العارمة التي عمّت في البلدين وكانت بمثابة الدخان الذي يحجب النار الملتهبة التي تهدّد بإحراق كلّ شيء أفاق الشعبان من غفوتهما تحت قعقعة السلاح باندلاع فتنة، هي أمّ الفتن كما يعلمنا تاريخ الإنسانية وذلك بجرّ الدين والمقدّسات إلى وحل الصراعات الدنيويّة على المال والسلطة في اعتداء مزدوج على اللّه والإنسان معًا، فكثرت الاغتيالات وعمليات الخطف، خطف العباد والبلاد وسالت دماء كثيرة وانتشرت ثقافة العنف والكراهيّة وتحوّل الحلم الديمقراطي إلى كابوس.

حلم الناس بمدّ الطرقات وبناء الجسور والمدارس والمستشفيات وتشغيل العاطلين عن العمل وتزويج قليلي ذات اليد ذكورًا وإناثًا ممّن حكم عليهم فساد النظامين السابقين بالعنوسة المؤبّدة وتشييد، تبعًا لذلك، بيوت للأمل والحبّ والنماء، فعُبّدت على العكس من ذلك مسالك للموت وشُيّدت معابد للحقد والكراهيّة ومُدّت جسور الإرهاب من الجبل إلى البحر لتطال البيوت والمساجد والمتاحف والفنادق.

لا غرابة إذن بعد أن انقضت مرحلة الانتشاء الأولى أن تستمع إلى ليبيين لم تكن لهم في يوم من الأيّام أيّ صلة بما كان يُسمّى اللّجان الثوريّة

ومن ثمةّ فلا غرابة إذن بعد أن انقضت مرحلة الانتشاء الأولى أن تستمع إلى ليبيين لم تكن لهم في يوم من الأيّام أيّ صلة بما كان يُسمّى اللّجان الثوريّة، بل إنّ أغلبهم كان لا يخفي سعادته بسقوط الطاغية، هذا إذا لم يكن مساهمًا في ذلك قليلاً أو كثيرًا، يترحّمون اليوم على معمّر القذافي ويعبّرون صراحة عن الحنين إليه، لا لشيء إلا لأنّه، كما قال لي مواطن ليبي بسيط بلغ من العمر عتيًّا وفد على تونس للعلاج، كان معمّر الذي -كما قال لي كان من قبل هو بنفسه يطلق عليه المدمّر- يوفّر لليبيين الأمن والنوم في هناء وراحة افتقده طيلة السنوات الماضية في طرابلس.

منذ مدّة في تونس أصبح إعلان البعض صراحة عن الحنين إلى ابن عليّ، والذهاب أبعد من ذلك إلى المطالبة بعودته للحكم أمرًا لا يثير أيّ صدمة أو ردّة فعل غاضبة وعنيفة كما كان الأمر عليه في السنة الأولى بعد رحيله. بالأمس وفي وضح النهار وقبيل الغروب في سوق رمضانية عامرة مزدحمة في تونس العاصمة وبعد أن تناهى إلى مسامع الناس خبر هجوم إرهابي على فندق في سوسة راح ضحيته نحو الأربعين نسمة من القتلى وأكثر من ذلك جرحى بين سائحين أوروبيين وتونسيين كانوا يستحمّون في البحر أطلق شاب مفتول العضلات يرتدي تبّانًا قصيرًا بدا كأنّه بائع غلال عقيرته بالصياح «يحيا ابن علي، يحيا ابن عليّ تستاهلو يا توانسة»، أخرجتموه من الحكم وهذه هي النتيجة اجنوا الآن الجراح.

كان الناس ينظرون إليه في صمت ولا أحد استنكر عليه قوله، بل لعلّ البعض منهم كان يستمتع بما يقوله. الوحيد الذي تحدّث إليه وقاطعه رجل قال له: «ينبغي أن نطلب منه الرجوع»، فكان أن ردّ عليه «لا أعتقد أنه سيلبّي رغبتك. أتريده أن يرجع إلى الخراب».

ليس من السهل أن تقنع مثل هؤلاء المواطنين بحجج المثقفين بأن تقول لهما إنّ ما نعيشه اليوم من دمار في البلدين سببه القذافي

ليس من السهل أن تقنع مثل هؤلاء المواطنين، ومثلهما كثير، بحجج المثقفين بأن تقول لهما إنّ ما نعيشه اليوم من دمار في البلدين سببه القذافي وابن علي اللّذين فلحا التربة بفساد نظاميهما وتسّلطهما لكلّ مظاهر الخراب التي نعيشها اليوم بما في ذلك تهميش فئة الشباب وتفقيرهم وتجهيلهم وغلق أبواب الأمل في وجوههم ودفع البعض منهم إلى الإرهاب المسلّح الذي جعلهما -وهذا جوهر المفارقة- كما يمكن أن يجعل غيرهما يحنّون إلى القذافي وابن عليّ أو إلى من يشبههما من الطغاة المستبدّين والفاسدين، ولا أن تذهب إلى أبعد من ذلك للإشارة إلى قوى علنيّة وخفيّة داخليّة وخارجيّة ليس من مصلحتها أن تنعم الشعوب العربيّة عمومًا بالديمقراطيّة، لأنّ حرمانها من ذلك هو الضامن الوحيد لتبقى تحت السيطرة تستهلك دون أن تنتج، تبيع الثروات التي تختزنها أرضها وبأبخس الأثمان دون أن تمتلك حتّى التقنيات التي تستخرجها بها من الأرض.

وإذا ما خطر على بالها أن تتحرّك وتعبّر عن نيتها في اقتفاء خطوات الشعوب التي سبقتها إلى الديمقراطيّة وتمتّعت بثمارها المختلفة من كرامة وحرّية وتقدّم ورقيّ ورفاهيّة، فلا بد، عملاً بالمقولة القديمة «فرّق تسد»، من بثِّ البلبلة والفتن في صفوفها، وأخطرها على الإطلاق هي الفتن الدينيّة والطائفيّة والقبليّة التي يُستباح فيها دم القريب قبل الغريب حتّى تندم هذه الشعوب على فعلتها وتتوب عن رغبتها وترفع يدها إلى السماء مستسلمة متضرّعة إلى اللّه أن يعيدها إلى الحالة التي كانت عليها تكتفي بما يسدّ رمقها على ألّا تموت برصاصة طائشة أو في تفجير انتحاري في سوق أو مقهى أو على شاطئ البحر، أي العودة إلى المربّع الأوّل إلى نقطة الصفر.

أولويّة الأولويّات لدى غالبيّة الناس اليوم تتمثّل في الأمن قبل الغذاء، حبّ البقاء، وما أدراك ما حبّ البقاء، الغريزة الأولى التي جعلها الفلاسفة مفتاحًا لفهم السلوك الإنساني برمّته والتي تجعل الإنسان، كما ذهب إلى ذلك نيتشه «يحبّ ويكره، بل قل يحبّ ويقتل، يفعل الخير والشرّ على حدّ السواء من أجل هذه الغاية نفسها ،كما أبان ذلك في كتابه «ما وراء الخير والشرّ» (Behind the good and the evil). لا غرابة، إذن، في أن تحن العامة إلى الطاغية.

لا تطمح عامة الناس إلى أكثر من توفير لقمة العيش والصحّة والعافية لنفسها ولأطفالها ورعايتهم حتّى يكبروا

لا تطمح عامة الناس، كما يذهب إلى ذلك أشهر دارسي ثقافة الشعوب من الإنتروبولوجيين وعلماء النفس، إلى أكثر من توفير لقمة العيش والصحّة والعافية لنفسها ولأطفالها ورعايتهم حتّى يكبروا ثم تزويجهم ورؤيتهم سعداء وإبعاد أكثر ما يمكن شبح الموت الداهم والمتربّص في كلّ لحظة" (Ernest Jones, psychoanalysis and Folklore)، ما عدا ذلك فهي من طموحات الخاصة المثقفة.

ولكن «ما فات أغرب». الحنين إلى الطاغية اليوم لم يعد فقط مقتصرًا على بعض البؤساء، من يمكن أن ينعتهم البعض بالبسطاء والجهلاء، فبعد فاجعة سوسة في تونس التي تسلّل فيها شاب إرهابي طالب في الجامعة في وضح النهار إلى شاطئ فندق بسلاحه وكأنّه في نزهة أو رحلة صيد يصطاد المصطافين في هدوء وكأنّه يقنص الحمام والعصافير بدأت أصوات بعض المثقفين والجامعيين الذين كانوا بالأمس من أشرس المتهجّمين على البوليس السياسي والمخابرات والداعين إلى حلّه، بل الدعوة إلى الاقتصاص منه تتعالى من أجل تشديد القبضة الأمنية في البلاد وإعلان النفير العام، بل ذهب البعض إلى اعتبار الاتحاد العام التونسي للشغل ذاته الذي كان بالأمس القريب حاضنًا للحوار الوطني منظمة إرهابيّة إذا ما أعلن من هنا فصاعدًا الإضراب في أيّ قطاع من القطاعات، ما يعني العودة إلى نظام بوليسي أفظع من نظام ابن علي الذي، على حدّ علمي، لم يجرّم في يوم من الأيّام الإضراب، أو على الأقلّ لم يذهب إلى حدّ اعتبار المضربين إرهابيين.

القضيّة كلّها في غريزة حبّ البقاء، أمّ الغرائز، ومن له شكّ في ذلك فليعد إلى الوراء ويشاهد الكاميرا الخفيّة للطائرة المنكوبة الوهميّة في القناة التاسعة التونسيّة قبل التوقف عن بثّها حزنًا على ضحايا العمليّة الإرهابيّة في سوسة وينظر في سلوك سياسيين تعرّضوا للاضطهاد والنفي ولشتّى أنواع التعذيب النفسي والجسدي في السجون أيّام الدكتاتوريّة وهم يصيحون ويستغيثون وينفخون في صدرية نجاة صفراء كما ينفخ طفل في بالونات الأعياد الورديّة أملاً في البقاء على قيد الحياة فقط.