Atwasat

ترحال: الحسد

محمد الجويلي الثلاثاء 16 يونيو 2015, 12:22 مساء
محمد الجويلي

«كتبت إليّ تسألني عن الحسد ما هو؟ ومن أين هو؟ وما دليلُه وأفعالُه؟ وكيف تُعرف أموره وأحواله؟ وبِم يُعرف ظاهره ومكتومه، وكيف يعلم مجهوله ومعلومه، ولِم صار في العلماء أكثر منه في الجهلاء؟ ولِم كثر في الأقرباء وقلّ في البعداء؟ وكيف دبّ في الصالحين أكثر منه في الفاسقين؟ وكيف خُصّ به الجيران مِنْ جميع أهل الأوطان؟»

ليست هذه الأسئلة من طرحي كما يمكن أن يتبادر إلى الذهن لأوّل وهلة، وإنّما قد طرحها منذ أكثر من ألف سنة مفكّر العرب والمسلمين الخالد الذي لم يكتف بكتابة"الحيوان« فقط وإنّما كتب كذلك"الإنسان»(1) أبو عثمان الجاحظ في مقدّمة رسالته«الحاسد والمحسود»(2) محاولا الإجابة عليها في هذه الرسالة نفسها وفي رسالة أخرى من تحبيره في نفس الموضوع وردت بعنوان«فصل ما بين العداوة والحسد».

أما الداعي الذي دعاني إلى إعادة طرحها من جديد ليس فقط حداثتها رغم أنّها قديمة- علما وأنّ فعل الحداثة، بمعنى (modernism) ليس مفهوما كرونولوجيا (chronological)، أي يحيل على التعاقب الزمني، وإنّما هو فعل فكري وابستيمولوجي قد يكون قديما جدّا، أي ليس معاصرا لنا ولكنه حديث لأنّه بكلّ بساطة مازال يحرّك فعل المعرفة وينشّطه ويعالج، تبعا لذلك، قضايا مازال يعيشها الإنسان المعاصر هو ما قرأته لصديق منذ أيّام على صفحته في «الفيس بوك» في ما يشبه البيان الحكمي بخطّ رمادي عادي:«النجاح يولّد الحسد والحسد يولّد الحقد. اللّهم نسألك العفو والعافية» قبل أن يعود بعد يوم فقط وقد شجّعته على ما يبدو آيات الإعجاب التي تهاطلت عل قوله ليخطّ ما كتبه بالأمس بخطّ أحمر قان هذه المرّة دلالة على خطورة الأمر مضيفا في تعليق موجز قائلا«لاقى ما نشرته[حول الحسد] قبولا كبيرا. يبدو أنّنا نعاني من مرض قد استفحل في مجتمعنا لا يخلّف غير الحقد وهو أشدّ فتكا من الأمراض البدنيّة».

تساءلت في نفسي ما السبب الذي يجعل هذا الرجل الدمث الأخلاق الطيب المعشر الذي تقاعد من وظيفته مربيّا ومعلّما للأجيال منذ سنوات، ولكنّه رفض القعود والاستكانة للخمول ونهض منصرفا دون مقابل إلى جمع التراث الشفوي في منطقته بالجنوب التونسي المتاخم للحدود الليبية، بل أكثر من ذلك إلى الحفاظ على الذاكرة الشعبيّة التونسية الليبية الجزائرية المشتركة في المنطقة الحدودية بين الأقطار الثلاثة وصونها من التلاشي بعقد ملتقيات وندوات تلاقي نجاحا باهرا كما يثبت ذلك في صفحته على «الفيس بوك» ثناء أصدقائه عليه من الليبيين والجزائريين، علاوة بالطبع على التونسيين، إلى أن يتضرّع للّه ليقي كلّ الناجحين شرّ الحاسدين الذين يتحوّلون حتما بفعل الصيرورة المرضيّة النفسيّة إلى حاقدين.

لم أجد أفضل للتضامن مع صديقنا الذي لم يخطيء عندما وصف الحسد بالداء العضال الأخطر من الأمراض البدنيّة المستعصية الذي بدأ ينخر مجتمعاتنا ولعلّه لم يستفحل فيه كما استفحل في السنوات الأربع الماضية عدا التعبير في قول خططته تعليقا على كلامه كنت قد حفظته عن ظهر قلب من جدّتي رحمها اللّه في صباي التي كانت عندما يصيب أحد أحفادها خمول غير مفهوم أو ما يشبه المرض أو إذا ما بدا على وجهه شحوب أو على جسمه نحول أن تستنجد بحبل أسود يُسمّى«الريّ »بعد أن تكون قد أوقدت الحطب في الموقد ورمت فيه البخور لتديره على رأسه أكثر من مرّة في ما يسمّي بالتلويذة[وأصلها عربيّ من لاذ يلوذ لوذا] لاستئصال تأثير الحسد والعين الشرّيرة من جسده ونفسه متمتمة في أشبه ما يكون بالصلاة جاحظة العينين متثائبة ومتوتّرة وكأنّها تستخرج السوء أو«السؤْ» كما تنطق هذه الكلمة من جسم طفلها لتبتلعه بديلا عنه مردّدة«عين الحسود فيها عود والوشق والداد في عيون الحسّاد».

ما السبب الذي يجعل هذا الرجل الدمث الأخلاق الطيب المعشر الذي تقاعد من وظيفته  إلى جمع التراث الشفوي في منطقته بالجنوب التونسي المتاخم للحدود الليبية، بل أكثر من ذلك إلى الحفاظ على الذاكرة الشعبيّة التونسية الليبية الجزائرية المشتركة


لقد قرأت في الأربع سنوات الأخيرة ما يشبه هذه الاستغاثة والشكوى من الحسد ودق ناقوس الخطر منه في أكثر من موضع على «الفيس بوك» الذي أصبحت في صفحاته الشعوب عراة أمام نفسها وبعضها البعض غير قادرة على ستر مشاكلها وحجب أمراضها وسلوكياتها المنحرفة ولقمة سائغة ليس للتحليل النفسي والسوسيولوجي فقط، وإنّما لصنّاع القرار الدولي للتخطيط الاستراتيجي لمستقبل العولمة وتقسيم العمل ودور كلّ مجتمع في ذلك حسب طبيعة ثقافته وثروته ومزاجه العام!
ليس المجال هنا للحديث عن «الفيس بوك» باعتباره حقلا ثريّا ومميّزا للدراسة الاتنولوجية والسوسيولوجية والنفسيّة، فهذا يتطلب مقالا مستقلّا بذاته، بل مجموعة مقالات وبحوث، وإنّما الحسد حتّى وإن كان منطلقنا إليه قولة رصدناها ولاحظناها على إحدى صفحاته. ليس مستغربا أن يسري الحسد، الذي يعرّفه الجاحظ ويوافقه في ذلك أغلب فقهاء المسلمين والمتكلّمين بأنّه"تمنّي زوال النعمة على الغير خلال السنوات العجاف الأخيرة سريان النار في الهشيم.

فمجتمعاتنا لم تعرف من الربيع العربي إلى حدّ الآن إلّا أزهاره الشائكة التي تدمي الأصابع والقلب فهي فاشلة فشلا ذريعا وهي دون منافس ومنازع أكثر المجتمعات إنتاجا للفشل وللحسد وإبداعا فيهما في سائر الميادين أوّلا سياسيّا ودينيا وثانيا اقتصاديا وعلميّا وثقافيا وهلمّ جرّا، وليس من المبالغة والتشاؤم في شيء القول أنّ أفضل مشروع ناجح يمكن أن يبعث لدينا هو تأسيس شركة أو أكاديميّة دولية لتعليم الفشل والحسد أيضا يقصدها من كلّ حدب وصوب ومن سائر أنحاء العالم طلّاب الفشل ومشاريع الحاسدين من الشعوب التي شبعت إلى حدّ التخمة بالنجاح وإنتاج الأمل.

ومن ثمّة لا غرابة في أنّ من يريد منّا أن يكون استثناء وناجحا ويكدّ ويجدّ من أجل الوصول إلى هذه الغاية أن يعاقب عقابا شديدا حتّى لا تسوّل له نفسه المضيّ أكثر في نجاحه وليكون عبرة لمن يعتبر لكلّ من يريد القفز من قارب الفشل وامتطاء قارب النجاح والفلاح.


لتفشّي الحسد في مجتمعاتنا في هذه المرحلة، إذن، أسباب موضوعية تتمثّل في احتدام الصراع على السلطة والمال وانتشار ثقافة الكره والتدمير وإعلان الجميع الحرب ضدّ الجميع، وشعوبنا ليست استثناء في ذلك فقد سبقتنا إلى الحسد شعوب أخرى في ذروة أزماتها، فكما لاحظ«نيتشه» في حكمه المتعلّقة بالمخرّبين أنّ الإنسان الفاشل يصرخ في قمّة غضبه«فليُدمّر العالم على آخره»والحاسد الحاقد يفكّر بهذه الطريقة«بما أنّني لا أستطيع أن أحصل على شيء ما، فينبغي على الآخرين أن يكونوا مثلي وألّا يحصلوا على شيء حتّى ولو أدّى الأمر إلى نهاية الكون برمّته»(3) وهو المنطق الذي يقود إلى التدمير الشامل الذي يجد أفضل تعبير له في الإرهاب، وما أدراك ما الإرهاب، الذي أصبحت لمجتمعاتنا فيه أكاديميات دولية يقصدها المريدون من سائر أرجاء المعمورة.

والحسد على خلاف الغيرة التي هي غريزيّة وفيها دائما نصيب من الحبّ، كما يؤكّد التحليل النفسي، مفرّقا بين المفهومين اللّذين كثيرا ما يُستعملان خطأ بوصفهما مترادفين، لا مكان للحبّ فيه، فهو والكره متلازمان تلازم وجه الورقة بقفاها ولا غنى للواحد منهما عن الآخر، الواحد منهما يغذّي الآخر ويتغذّى منه في جدليّة لا تنتهي. إنّه، كما يقول برتراند رسل (Bertrand Russel) أهمّ الأسباب المنتجة للتعاسة النفسية وللاندحار الأخلاقي للإنسان. الغيرة تنبع من إحساس المرء بالخوف من فقدان شخص عزيز أو شيء متعلّق به يمتلكه غيره أمّا الحسد فهو إحساس بالكره والحقد ناتج عن شخص آخر، أي المحسود الذي يمتلك شيئا لا يمتلكه الحاسد ولكنّه يرغب فيه رغبة شديدة يعجز عن السيطرة عليها وترويضها فتتحوّل إلى إحساس ثمّ سلوك مرضي خطير يشقي صاحبه وقد يؤدّي به إلى الإضرار بغيره(4).

 

الحسد على خلاف الغيرة التي هي غريزيّة وفيها دائما نصيب من الحبّ، كما يؤكّد التحليل النفسي، مفرّقا بين المفهومين اللّذين كثيرا ما يُستعملان خطأ بوصفهما مترادفين، لا مكان للحبّ فيه، فهو والكره متلازمان تلازم وجه الورقة بقفاها ولا غنى للواحد منهما عن الآخر


أنْ نستمع ونقرأ في «الفيس بوك »عن أخبار الحاسدات والمحسودات من الجميلات العارضات لأزيائهنّ وأجسادهنّ والفنّانات وأشباههن والممثّلات والحاسدين والمحسودين من مشاهير لاعبي كرة القدم واللّاعبين اللعوبين من سياسيي القحط العربي، فهذا أمر قد اعتاد عليه عامة الناس، أمّا ما يصدمهم ولا يجدون له تفسيرا هو أن يحسد بعضهم البعض من ينظرون إليهم باعتبارهم قدوة يمتلكون مفاتيح الفرج بعد الشدّة من المثقفين والعلماء والكتاب والصالحين، لا سيما وأنّه في الغالب لا مبرّر أصلا لذلك إلاّ إذا صار الشقاء مجلبة للحسد. هنا كذلك، لا غرابة في الأمر فالمسألة قديمة حين نستحضر أسئلة الجاحظ،: «لِم صار[الحسد] في العلماء أكثر من الجهلاء؟ وكيف دبّ في الصالحين أكثر منه في الفاسقين؟» وقوله الذي ليس في حاجة إلى تعليق «إنّه لم يخل زمن من الأزمان فيما مضى من القرون الذاهبة إلّا وفيه علماء محقّون، قد قرأوا كتب من تقدّمهم ودارسوا أهلها ومارسوا الموافقين لهم وعانوا المخالفين عليهم فمخضوا الحكمة وعجموا عيدانها ولهم حسّاد معارضون من أهل زمانهم في تلك العلوم والكتب، منتحلة يدّعون مثل دعاويهم، قد وسموا أنفسهم بسمات الباطل، وتسمّوا بأسماء العلم على المجاز من غير حقيقة، ولبسوا لباس الزور متزخرفين متشبّعين بما لا محصول له، يحتذون أمثلة المحقّين في زيّهم وهديهم ويقتفون آثارهم في ألفاظهم وألحاظهم وحركاتهم وإشاراتهم ليُنْسبوا إليهم ويُحلّوا محلّهم، فاستمالوا بهذه الحيلة قلوب ضعفاء العامة، وجهلاء الملوك، واتّخذهم المعادون للعلماء المحقّين عُدّة يستظهرون بهم عند العامة وحمل المدّعيةً للعلم المزوّرِ الحسدُ على بهْت العلماء المحقّين وعضْههم [ عضه أي كذب] والطعن عليهم، وجرّأهم على ذلك ما رأوْا من صفْو ضعفة القلوب وأذلّة الناس إليهم، وميل جهلاء الملوك معهم عليهم، وأمّلوا أن ينالوا بذلك بشاشة العامة، وتستوي لهم الرياسة على طًغام الناس[أي الأوغاد والأوباش] ورعاعهم ويستخولوا رُعاتهم وقومهم، فهمرُوا[أي أكثروا من الكلام] وهذروا وتورّدوا على أهل العلم بغباوتهم، وكشفوا أغطية الجهل عن أنفسهم، وهتكوا سترا كان مُسدلا عليهم بالصمت طمعا في الرياسة وحبّا لها.... ولم يخل زمن من الأزمنة من هذه الطبقة ولا يخلو. وهلاك من هلك من الأمم فيما سلف بحبّ الرياسة[أي حبّ المناصب]. وكذلك من يهلك إلى انقضاء الدهر فبحبّ الرياسة» (5).
ما أشبه الليلة بالبارحة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في اعتقادي لم يكتب الجاحظ مجلّده الضخم«الحيوان» فقط، وإنّما كتب كذلك «الإنسان» ولكن في مواضع مختلفة ومتفرقة من مؤلفاته الأخرى ورسائله دون أن يخصّص له مؤلّفا مستقلّا بذاته.

سأعود إلى هذه المسألة في مؤلّف كامل بعنوان «كتاب الإنسان للجاحظ».
(2) رسالة الحاسد والمحسود، ضمن رسائل الجاحظ الأدبيّة، القاهرة، دار ومكتبة الهلال[ الأصحّ دار الهلال ومكتبتها]، د.ت، ص.113
(3)Nietche,Recueil d’aphorismes, sous le titre « Les démolisseurs in Cahiers de Philosophie ,N16, Bruxelles, 1952 ,P.74
(4)Jean Michel Delacomptée « La Jalousie n’est pas l’envie » in L’objet de la Jalousie- Libres cahiers pour la Psychanalyse,2004-2 ,N/10, P .111
(5) ،الجاحظ، رسالة في الفصل مابين العداوة والحسد ضمن رسائل الجاحظ الأدبية، القاهرة، دار ومكتبة الهلال، دت، ص.368-369 . وقد تعمّدت إيراد هذا الشاهد على طوله لعدم حرمان القاريء من الاستفادة منه.