Atwasat

ترحال: متسولون أم مبدعون!؟

محمد الجويلي الأربعاء 13 مايو 2015, 09:30 صباحا
محمد الجويلي

إنّ آخر ما جادت به قريحة بعض المتسوّلين في تونس حسبما بلغني، يتمثّل في تعلّم اللهجة السوريّة وإتقانها قبل التحدّث بها واستعمالها لاستدرار عطف الناس وشفقتهم وتبعا لذلك التسلّل لحافظات نقودهم. يلجأ بعض الرجال والنساء- والعهدة على الرواة- قبل النزول إلى الميدان إلي المسلسلات التركية المترجمة إلى اللهجة السورية ينهلون منها ما طاب لهم من الكلمات والاستعارات والنبرات ويتزوّدون بها لكسب المال، بحيث يُقدّم لك الشحّاذ نفسه، عادة مصحوبا بطفل وقد بدا على سحنته الإعياء الشديد وارتسمت على وجهه علامات البؤس، أنّ الحرب قد شرّدته بعد أن دُمّر بيته وقُتل بعض أفراد عائلته، فتجد نفسك تسرع لحافظة نقودك تعطيه منها ما تيسّر من النقود حتى ولو كنت لست بأحسن حال منه كثيرا وفي مثل ضنك عيشه"الافتراضي" بالطبع، هذا إذا لم ينجح كذلك إذا كُنْت رهيف الحسّ ورقيق الوجدان في أن يجعلك تذرف دمعا حارا من فرط التأثّر بفاجعته، لا سيما وأنّه يحدّثك بلهجة لها تأثير السحر ووقع النغم الجميل كما كلّ اللهجات الشرقية عموما في آذان التونسيين، كيف لا واللهجة السورية مرتبطة لديهم في الزمن الجميل بصباح فخري وغوار الطوشي، علاوة على ارتباطها في السنوات الأخيرة بقصص الحب التركيّة والعثمانيّة التي اتّخذتها مطيّة للولوج إلى القلوب والعقول العربيّة، ما يجعلك تضاعف العطاء لمتسوّلك ومستعطفك بها، شفقة عليه وكذلك تسديدا مستحقّا لمتعة الاستماع إليه.

"المال مال وما سواه مُحال"، كان هذا شعار المتسوّلين في بغداد ودمشق أيّام مجدهما منذ أكثر من ألف سنة ومازال الأمر عليه إلى الآن في كلّ الحواضر وفي كلّ العصور، ولكن التسوّل وإنْ حافظ على نفس الشعار، فهو ما انفكّ يطوّر من تقنياته وأساليبه حتّى يتلاءم مع الظروف المستحدثة والطارئة. "الربيع العربي" كان ربيع الشحّاذين والمكدّين بامتياز لم يتضاعف فيه عدد المتسوّلين بسبب الفاقة والعوز واستفحال الفقر وتشرّد الآلاف من الناس جرّاء الحرب- وفيهم متسوّلون أصيلون دفعتهم فعلا الحاجة إلى ذلك-، وإنّما أفرز كذلك أنواعا جديدة من التسوّل الحِرفي لا عهد لنا به، إنْ ليس في المضمون ففي الشكل والأسلوب. بعضه وليد اللّحظة وأعطينا مثالا عنه: انتحال الهويّة السوريّة واستثمار المحنة الشاميّة لكسب عائدات ماليّة في المغرب العربي الكبير وبعضها قديم ولكنّه يستفيد بدوره من السياق السياسي والحالة الذهنيّة العامة التي ميّزت الأربع سنوات الماضية بطفو الحركات الإسلامية بمختلف مشتقّاتها على سطح الحياة السياسية والفكريّة وصعود بعضها إلى هرم السلطة. في تونس العاصمة مثلا تكاثر عدد المتسوّلين الذين يجمعون الأموال لبناء مساجد حتّى أنّه لا تكاد تخلو محطّة نقل عمومي أو شارع رئيسي أو حيّ منهم. أحدهم أعرفه حقّ المعرفة، كان يعترضني في أماكن مختلفة من العاصمة منذ أكثر من ثمانية سنوات وهو يجمع المال لبناء مسجد. أخيرا قلت له"أ لم ينته بناء المسجد بعد، أم أنّه مسجد جديد؟"، فأشاح بوجهه عنّي وحثّ الخطى مسرعا نحو غيري، شعاره في ذلك بكلّ تأكيد"يمشي الجافل ويجي الغافل" كما يقول المثل الشعبي.

هناك تسوّل آخر من إفرازات المرحلة يستفيد من الثورة الرقميّة بشكل ملفت للانتباه في السنوات الأخيرة وهو تسوّل بعض المثقفين

هناك تسوّل آخر من إفرازات المرحلة يستفيد من الثورة الرقميّة بشكل ملفت للانتباه في السنوات الأخيرة وهو تسوّل بعض المثقفين، بل لنقل المتكلّمين المكدّين(لا علاقة لهم بالمتكلّمين المعتزلة) من شحّاذي الربيع العربي يعرضون وجوهم في القنوات التلفزيونية بمناسبة وبغير مناسبة يتحيّلون على المواطنين والمشاهدين بدعوى إثراء المشهد الإعلامي والفكري وإنْ كانوا في الحقيقة وقد انكشف أمرهم يستجدون الوزارة والمناصب ويشحذون الوجاهة، وهم على خلاف المكدّين المثقفين البلغاء والظرفاء القدامى مثل أبي الفتح الإسكندري في مقامات الهمذاني وابن خالويه المكدّي الذي نقل لنا الجاحظ فصاحة لسانه وجمال عبارته، مبدعون في إنتاج اللّامعنى وفي أحسن الحالات المعاني الفضفاضة والعائمة، فيقولون كلّ شيء ولا شيء في لغة ركيكة وعبارة سقيمة وجمل عرجاء.

مثله مثل الإرهاب وإنْ كانا ليسا من نفس الطينة، أو لنقل مثل البيع والشراء نشهد الآن تسوّلا الكترونيا على غرار التجارة الالكترونية، بحيث تتفاجأ من حين إلى آخر بأن تصلك رسالة على حسابك الالكتروني ينتحل فيها أحيانا شحّاذ نكرة شخصية أحد أصدقائك مدّعيا انّه على سفر وقد اختلست حافظة نقوده وكلّ وثائقه ويلتمس منك أن ترسل إليه على الفور وبواسطة"الويسترن يونيون" ما تساعده به من المال لإخراجه من الورطة التي وقع فيها، وهو أسلوب كلاسيكي عادة ما يستعمله بعض المتسوّلين قرب المطارات ومحطّات القطار والنقل العمومي في الواقع وليس في العالم الافتراضي فقط. التسوّل مثله مثل فكرنا ومجتمعاتنا يتأرجح بين الخصوصيّة والكونيّة وبين الاتّباع والإبداع وإنْ كان في الغالب لا يصل إلى مرتبة ما برع فيه أسلافنا المتسوّلون القدامى فيكتفي في أحسن الحالات بإعادة إنتاج حيلهم القديمة، هذا إذا لم يشوهها ويحرّفها ويعيدها في أسلوب ركيك ولا غرابة في ذلك باعتبار أنّنا أمّة الغالب عليها في هذا العصر، هو معاداة التجديد وتقديس العادة والتقليد في كلّ شيء بما في ذلك في الكدية و التسوّل!

براعة أسلافنا القدامى تزخر بها مدوّنات الأدب وقد كشف الجاحظ على سبيل المثال لا الحصرعن طبقاتهم وأصنافهم( البخلاء،الدار البيضاء،مكتبة السلام الجديدة،ص.31-32 ) ومازال البعض منهم بوجوه وسِحن جديدة يعيشون بيننا بعد أكثر من ألف سنة! فمنهم المخطراني وهو الذي يأتيك في زيّ ناسك متعبّد، عليه سكينة ووقار فيريك أنّه وقع التنكيل به وقُطع لسانه من أصله لأنّه تجرّأ على التأذين للصلاة في دار كفر، ثمّ يفتح فاه كما يصنع من يتثاءب، فلا ترى له لسانا البتّة.

يقول الجاحظ ولسانه كلسان الثور ولقد كنت أحد من خُدع بذلك"ويصحب المخطراني في العادة رجل يحكي قصّته للناس، وقد يحمل لوحا أو قرطاسا قد كتب في شأنه قصّته ويعرضها على الناس وله في فرنسا مثيل منذ القرن السادس عشر وإلى اليوم فيما يُسمّون بالـLes Rifodés)) الذين يحملون قرطاسا كتبوا فيه أنّ مكروها قد أصابهم فتشردوا وأصبحوا بلا مأوى، ومستعرض الأقفية الذي يأتيك من قفاك وهو يرتدي لباسا محترما ليس رثّا كما هي عادة الكثير من المتسوّلين الآخرين يدّعي الخجل والحياء، وكأنّه يخشى من أن يراه أحد فيوشوش لك في همس شاكيا لك فقره وبؤسه، والكاغاني الذي يتجنّن ويتصارع أي يبدو لك وكأنّه مجنون أو به صرع حتّى تيأس من حالته وتشفق عليه وتحمد اللّه أنّه لم يصبك ما أصابه ولهذا الصنف من المتسوّلين المبدعين العرب مثيل في كلّ الحضارات ففي فرنسا يظهر هذا الصنف بمظهر الصرعى(Frappés d’Epilepsie) وقد يعمد بعضهم إلى وضع قطعة من الصابون في فمه ترغي فيخرج منه الزبد الذي يؤكّد مرضه ويسمّون بـ( Les sabouleux) والقًرًسي وهو الذي يعصب ساقه وذراعه عصبا شديدا ويبيت على ذلك الليل كلّه، فإذا تورّم واختنق الدم مسحه بشيء من الصابون وبنبت أحمر اسمه"دم الأخوين" وقطر عليه شيئا من السمن وأطبق عليه خرقة وكشف بعضه، فلا يشكّ من يراه بأنّ به أكلة فيعطف عليه.

أمّا المشعِّب فربّما احتال للصبيّ حين يولد- وهذا إجرام- بأن يعميه أو يجعل ذراعه معوجة مشلولة أو عضده الواحد أقصر من الثاني ليسأل به أمّه أو أبوه، أو كرائه بكراء معلوم. أمّا الإسطيل فهو المتعامي، إنْ شاء أراك أنّه منخسف العينين وإن شاء أراك أنّ بهما ماء ولكلّ هؤلاء كذلك نظراؤهم في فرنسا منذ أقدم العصور سواء كانوا متعامين أو متصاممين(sourdes) أو مشلولي الأطراف (paralytiques) أو الذين يجرحون أذرعهم فيسيل منها الدم والقيح أو يأكلون ما يسبّب لهم نفخة في بطونهم فيدورون ويستجدون، فإذا عادوا إلى منازلهم مساء زالت عنهم أمراضهم وعللهم"فإذا بعيون العميان كما يقول ايسيه (Isaie) ترى النور وتسمع آذان الصمّ الأصوات ويقفز العرجان كالغزلان" (أنظر،صلاح الدين المنجد، الظرفاء والشحاذون في بغداد وباريس،بيروت،المؤسّسة الأهلية للطباعة والنشر،الطبعة الثانية، د.ت،ص103-104 ).

لقد عرف العرب قديما"الكدية الفنيّة الأدبيّة" وبرعوا فيها كما أبانت لنا مقامات الهمذاني على لسان أبي الفتح الإسكندري المتسوّل الأديب الظريف حتّى صارت كالمذهب والطريقة، بل الحرفة التي لا بدّ أن يتعلّم مريدها آدابها وأخلاقياتها وهذا ما نستشفّه من نصائح مكدٍّ لابنه يريده أن يذهب مذهبه ويقتفي خطواته في مهنته قائلا"واعلم أنّ الارتكاض بابها، والنشاط جلبابها، والفطنة مصباحها، والقِحة سلاحها، فلُجّ كلّ لجّ وانتجع كلّ روض، وألق دلوك في كلّ حوض، ولا تسأم الطلب ولا تحلّ الدأب. فقد كان مكتوبا على عصا شيخنا ساسان: من طلب جلب، ومن جال نال....." ( المقامة الساسانيّة للحريري) ولهذه الكدية الفنية التي تكاد تكون قد انقرضت في حواضرنا العربيّة لتحلّ محلّها كدية رتيبة وركيكة وأحيانا وقحة، فجّة وعنيفة وأقرب منها للصوصيّة من التسوّل كأن يصرخ شحّاذ في عربة قطار أو ترام أو حافلة مزمجرا ومكشّرا عن أنيابه مزبدا ومرعدا ومهدّدا بصفة مبطّنة وهو يروي محنته حتّى تعطيه النسوة والصبايا وضعاف النفوس من الرجال ما يتّقون به شرّه أو التماسا للهدوء ودرءا للتوتّر ما يعادلها في الغرب والمدن الأوروبية نلحظها في هؤلاء العازفين الذين يتسوّلون بالموسيقي والغناء في عربات المترو وأروقته، فيغنمون بعض الأموال هي عبارة كما يقول الانتروبولوجي الفرنسي مارك أوجيه (Marc Augé)"عن تعويض عادل عن موهبة، عطاء شبيه بالصدفة كما يراه مارسال موس(Mauss) عطاء للّه أكثر ممّا هو تعبير عن التضامن بين عباده!"(مارك أوجيه، اتنولوجي في المترو "ترجمة محمد الجويلي، الملحقية الثقافية السعوديّة في باريس،بيروت،الدار العربيّة للعلوم ناشرون،2012،ص.80).

لقد خال مارك أوجيه أنّ ما يسميّه المتسوّل الجديد، أي الصامت، هو نتاج للحضارة الصناعيّة الحديثة والحواضر الغربيّة الكبيرة كباريس. إنّه على حدّ زعمه فهم أنّ الخطاب الموزون والمسجّع والمقفّى لم يعد يجدي نفعا، فاستبدل السؤال الشفوي بقطعة من الورق المقوّى(الكارتون( أو لوحة تعرّف بمحنته مؤسّسا لكدية في صمت فهو يبدو برأسه الغائر بين يديه المنثنيتين وكأنّه يمارس اليوغا لا يعرض شيئا ماعدا نفسه في حضور تام وغياب كثيف في الآن نفسه ويجعل من نفسه"محلّ نظر" في حين لا هو إلى أحد دون أن يلتجئ إلى أن يضع على عينيه نظارات سوداء ويمسك بالعصا البيضاء[ كما يفعل الشحّاذون المتعامون الكلاسيكيون].... هذا المتسوّل الجديد، يؤكّد هذا الانتروبولوجي، ليس ضريرا ولكنّه دون عينين، عاطل عن الكلام والشغل، سلبية خالصة، ينادي من غير صوت، لا ينادي إلّا أولئك الذين يرغبون في أن يُنادوا والذين يشعرون بأنّه وقعت مناداتهم"بطريقة ما" (المرجع نفسه،ص.81) وفي الحقيقة فإنّ هذا الصنف من المتسوّلين ليس جديدا كما توهّم"أوجيه" وإنّما هو قديم وعريق عراقة بني ساسان. هو نظير المخطراني العربي والإسلامي الذي حدّثنا عنه الجاحظ ويعترف بأنّه خُدع به الذي يكتب على قرطاس أو لوح قصّة محنته لكن دون أن يرتقي وهو وليد الحداثة الغربية إلى مستوى الإبداع الصامت للمخطراني وليد عصر ما قبل الذكاء الحداثوي والتكنولوجي القادر بأن يريك متثائبا أنّ لسانه قد تقوّر وقُطع من أصله.

وفي الحقيقة لا بدّ للعالم ألّا يعترف لنا فقط بأنّنا أسّسنا مدارس عريقة في الطبّ والفلك والهندسة والتنجيم والرياضيات والعمارة وإنّما كذلك في التسوّل واللّصوصيّة كما سنرى لربّما في مقال لاحق دون أن نمتلك اليوم القدرة الإبداعيّة لسلفنا الصالح والطالح منه في شتّى الميادين. ولا شكّ أنّ تعلّم اللهجة السوريّة للتسوّل في تونس ولربّما في البلدان المغاربية الأخرى التي لجأ إليها الكثير من السوريين ينمّ عن عبقرية مذهلة وذكاء حادّ في اقتناص اللحظة التاريخية واستثمار عذابات الآخرين وشقائهم"ومصائب قوم عند قوم فوائد" ولكن الشاذ يُحفظ ولا يُقاس عليه.