Atwasat

عزة المقهور: رسالة إلى والدي في ذكرى ميلاده، 1 يناير 2015

عزة كامل المقهور الأربعاء 31 ديسمبر 2014, 08:16 مساء
عزة كامل المقهور

والدي الحبيب..

تمر ذكرى ميلادك العطرة في أول يوم من العام الجديد.. لأفتتح العام بذكراك.. لكن هذه السنة وددت أن أخبرك عن الوطن.. وأنت تمثل جيلا عصاميا نهض بليبيا.. تحمل الكثير.. شارك في بنائها وحل مشاكلها...ولم يبرح مطارحها أبدا.

والدي.. قد لا تكون على علم بما آل اليه الحال.. فقد اصطفت البلاد في ثورة عارمة أطاحت بدكتاتورية بائسة، متأثرة بمحيطها العربي، رحل بن علي فاراً، وسقط مبارك، وقتل القذافي.. وهكذا طويت مرحلة هامة وطويلة قضاها هذا الشعب وهو يكافح ويعاني.. لا تستغرب يا والدي، وأنا أرى في عينيك العسليتين استعجالاً لما حدث بعد ذلك...

تمر ذكرى ميلادك العطرة في أول يوم من العام الجديد.. لأفتتح العام بذكراك.. لكن هذه السنة وددت أن أخبرك عن الوطن..

دعني أقول لك، أن تحولا ديمقراطيا حقيقا قد حدث في ليبيا، فقد جرت انتخابات في عام 2012... ليست كتلك الانتخابات التي ترشحت فيها في الستينيات ولم تفز بسبب التزوير.. إنتخابات حقيقية وقف فيها الليبيون رجالا ونساء امام صناديق الاقتراع، انتخبوا 200 مواطنا نوابا عن الأمة، ووصلت المرأة بنسبة 13 % إلى البرلمان الجديد، وتنفس الناس الصعداء، ونشط المجتمع المدني الوليد، وسرت إنتعاشة من الإبداع والمشاركة لم تر لها ليبيا مثيلا، وشارك الشباب والمرأة في البناء المؤسساتي، وعينت حكومة من البرلمان، وبدا للجميع بما في ذلك المجتمع الدولي أن ليبيا تسير في الطريق الصحيح. أرى بريقاً في عينيك... رويدك علي يا أبي الحبيب.. فالصورة قاتمة.. عفوا لا تبتأس إستمع فقط لما حدث ثم قيّم الأمر..

لكن الكثير ممن إنتخبهم الشعب واعتلو منصة البرلمان لم يكونوا في مستوى المسؤولية، فأبتلينا بأشخاص وضعوا قدما في البرلمان وأخرى في جراب حذاء مليشياوي جهوي.. فأصبحوا أبواقا لمطامح ورغبات محمومة في الوصول والمكوث في سدة الحكم.. كما أبتلينا بتنفيذيين نهبوا خيرات البلاد وخزائنها وبتنا نسمع عن أرقام فلكية ترصد لهم وتتبخر دون رقيب ولا حسيب..

وللتمكن من السلطة والإستيلاء على قوت الليبيين، كان لابد من إشهار عملية إقصاء متعمدة ومجدولة أنهكت المسار الديمقراطي وقسمت الليبيين إلى طباق، وأُتخذت سلاحا للتهديد والعقاب...كان ورائها بعض النواب وأبواق المليشيات تحت قبة البرلمان، وقد صاحب ذلك إستخدام العنف والتهديد بإستخدامه.

لا تتعجلني يا أبي فقلبي ملئ والأحداث متسارعة.. وقد لا أتمكن من قول كل ما لدي..

أما الإشكال الكبير فقد كان ومازال في وجود مجموعات مسلحة.. نعم نعم يا أبي مليشيات! لا تستغرب فقد إمتلأت البلاد بهم.. يتبعون مدناً ويعتاشون من الجهوية المقيتة.. أرى في عينيك تساؤل عن مصدر الأسلحة.. للأسف يا أبي اضطرت الثورة أن تتعسكر، وأن تدخل في حربا مع كتائب النظام آنذاك.. كما وللأسف تدخل حلف الأطلسي وساعد الليبيين في انتصارهم على الدكتاتورية.. وترك لهم الأمر بما في ذلك تدبر أمر الأسلحة والمدرعات والدبابات والمتفجرات والشباب الذي عاش الموت والقتل وشارك فيه.. ترك لهم أيضا تدبر أمر مسارهم الديمقراطي.. وانتخاباتهم.. ووضع دستورهم.. لكن كل هذا معا كان لقمة أكبر من فم الليبيين.. كان الأمر يعني السير بالمسار الديمقراطي في طريق ملئ بالألغام الذي قد يؤدي إلى حقل أخضر بهي لا نرى منه في الأفق إلا بعض الأوراق والشجيرات.. كانت التحديات كبيرة.. أكبر منا يا أبي.. لا تبتأس مني ولا تنظر إليّ بعتاب.. اسمعني فقط فمازال لدي المزيد من القول...

هل تتخيل يا والدي الحبيب استقطابا ايديولوجيا صارخا في ليبيا... هههه.. أراك تتكأ إلى الوراء وتبتسم.. أبي.. نعم إصطف الليبيون في استقطابات حادة حتى نمت مشاعر كراهية لم نعهدها قط.

هل تتخيل يا والدي الحبيب استقطابا ايديولوجيا صارخا في ليبيا... هههه.. أراك تتكأ إلى الوراء وتبتسم.. أبي.. نعم إصطف الليبيون في استقطابات حادة حتى نمت مشاعر كراهية لم نعهدها قط، قتل الأخ أخاه، وبلّغ ابن الأخ عن عمه والجار عن جاره، وشارك من شارك في اختطاف صديقه وتعذيبه، وطلق الزوج زوجته.. كل ذلك لإنتماء احدهما لمجموعة تفكر بطريقة مختلفة، وكان الغلبة في كل هذا لمن حمل سلاحا.. ومن إنتمى إلى مدينة مسلحة حتى أسنانها...كانت البداية مدينة "تاورغاء" نعم تلك المدينة الصغيرة التي تعج بالسحنات السمراء التي كنا نمر بها في طريقنا إلى الجنوب.. لم تعد موجودة، فقد هجر أهلها..ثم كان من نصيب طرابلس الكثير، لم يعد لدينا مطارا يا أبي... هدموه.. وخزانات النفط في طريق المطار أشعلوا فيها الحرائق... وأبناء اصدقاؤك وجيرانك في الظهرة قتلوا في أحداث غرغور... ومعز أبن الأستاذ عبد الله بانون اختطف ولا نعرف عنه شيئا، ومعاوية زوج إيمان إبنة عمي خليفة اختطف ثم اطلق سراحه... أعلم أعلم أنك لا تريد سماع المزيد... لكنني لابد وأن أعلمك بأن صديقتي سلوى سعد بوقعيقيص.. ابنة عمومة عمو "وحيد" قتلت في بيتها ونكل بها.. وهي التي صدحت في أيام الثورة الأولى ولعبت دورا في المسار الديمقراطي ونشطت في الحوار الوطني ولم تعتد على أحد ولم تطالب بمنصب في أية وزارة... قتلت بهمجية التتار يا أبي .. لقد عادت عقارب الساعة إلى الوراء واستوطن بلادنا أناسا يختلفون عنا في ملبسنا ومأكلنا ومشربنا وطريقة تفكيرنا والتخطيط لمستقبلنا بطريق علمي... اتهمونا بالكفر وحزوا رؤوسنا ياأبي.. لا ترفع منكبيك وتنزعج.. فما زال لدي المزيد...بنغازي يا أبي التي أخذتني اليها ذات يوم لألتحق بكلية الحقوق.. أتذكر.. تلك الجامعة المهيبة بممراتها وقاعاتها ومكتبتها المركزية ونافورتها عند المدخل.. أتذكر ذلك اليوم حين اندهشت من جمال المكان.. حرقوا الجامعة وملفاتها وكتبها.. حرقوا الذاكرة يا أبي.. بنغازي اليوم كأنها بيروت السبعينيات...

حسناً حسناً.. لن استرسل كثيرا.. فقد تعبت أنا أيضا... هُجر كثر يا أبي.. ملايين من الليبيين في الدول المجاورة منهم من لا يمتلك قوت يومه.... لا لا لا يستطيعون العودة.. فقد تنامت أعمال القبض والتعذيب والقتل والنهب والسلب... حفيد عائلة رزق في فشلوم... نعم عمي محمود رزق.. وهو ايضا حفيد عائلة الزنتوتي.. قتل من قبل سارق برمانة..عفوا .. عفوا... لن أكمل...

الآن وبعد كل هذا، تصاعد الأمر وتفاقم...ووصل إلى قوت الليبيين ومصدر بقائهم... "النفط"، وهذا آخر ما تتوقعه.. كل تلك القضايا الدولية النفطية التي توليتها وكسبتها ومن بينها دعوى "الجرف القاري" بين ليبيا وتونس أمام محكمة العدل الدولية...كلها محل صراع ... بل إن هذا الذهب الأسود بات يحترق ويتبخر في الهواء..
والدي الحبيب..

سأصمت.. أراك تلوح بيدك اليسرى ذات المحبس الذهبي أمام وجهي.. أريد فقط أن أقول لك بأنك حسناً فعلت حين رحلت... فما كان لقلبك المتعب أن يحتمل..أما نحن أبناؤك.. فهذا قدرنا، وهذا أهلنا، وهذه بلادنا.. وماعلينا إلا أن نسأل الله سبحانه أن يجعل لنا مخرجا...

سامحني يا أبي.. ما كنت أود إلا أن أقول لك... كل العام وأنت بخير.

المطيعة
عزة