Atwasat

هل «الديمقراطية التوافقية» ديمقراطية ؟!

إبراهيم اغنيوه الأحد 23 نوفمبر 2014, 02:03 مساء
إبراهيم اغنيوه

كثر الحديث هذه الأيام عن الديمقراطية التوافقية، وعمّا إذا كانت ديمقراطية فعلاً. وقد قيل كلام وطرحت تساؤلات من هذا النوع في السابق عن الديمقراطية الليبرالية والديمقراطية الاشتراكية والديمقراطية الشعبية وغير ذلك من الديمقراطيات، وفيما استنتج البعض أنه لا وجود إلّا لديمقراطية واحدة دون صفات أو إضافات، توصل البعض الآخر إلى نتيجة مفادها أن ديمقراطية مضاف إليها صفة أو صفات خير من عدم وجود ديمقراطية على الإطلاق.

فما هي «الديمقراطية التوافقية» وما الفرق بينها وبين غيرها من الديمقراطيات؟
لعل الدراسة التي كتبها «د. رغيد الصلح» عن «الديمقراطية التوافقية» بتكليف من مشروع برنامج الأمم المتحدة في مجلس النواب اللبناني، والصادرة في يناير 2007م، كانت محاولة جادة قدمت إيضاحات حول الديمقراطية التوافقية عمومًا والديمقراطية التوافقية في لبنان على وجه الخصوص.

في الجزء الأول من الدراسة، يتحدث الكاتب عن الديمقراطية التوافقية عمومًا، حيث يُعرّف الديمقراطية التوافقية بأنها نموذج يحقق الاستقرار في مجتمعات معينة ـ مثال: مجتمعات بها طوائف ولا تستطيع طائفة منها الحصول على الأغلبية اللازمة في الديمقراطية الكلاسيكية ـ.

 

يعتقد التوافقيون أنّ وجود التباينات بين فئات المجتمع لا يذهب بالضرورة بوحدة لا يقضي على تطوره الديمقراطي

وتهدف الديمقراطية التوافقية بحسب توصيف التوافقيين لها ـ ارنست ليبهارت مثلاً ـ ، إلى تنمية روح المساومة والإجماع بين فئات المجتمع المتعددة.

وتصلح الديمقراطية التوافقية ـ يقول د. رغيد الصلح ـ للمجتمعات التعددية التي بها انقسامات متنوعة وحادة، يعتبرها كليفورد غيرتز وليدة الولاءات الأزلية مثل الولاء لجماعة دينية أو طائفية لغوية أو عرقية أو ثقافية أو مناطقية أو قبلية.

وقد يعتقد البعض أن الديمقراطية التوافقية تصلح فقط لدول العالم الثالث، إلّا أن هذا غير صحيح، فهي منتشرة في أوربا (سويسرا وهولندا والنمسا مثلا) وآسيا وافريقيا وأمريكا اللاتينية.

في بداية تطبيق الديمقراطية في أوربا بعد نهضتها واجهت هذه الدول مشكلة اختلاف القوميات، وبينما قامت فرنسا سنة 1882م بفرض التعليم الإلزامي لتوحيد الأمة لغة وثقافة وتاريخًا (توحيد الأمة من فوق)، قامت الثورة الصناعية بدور كبير في توحيد بريطانيا ـ عبر الطباعة والطرق المعبدة ووسائل الاتصال والاسواق ـ وتذليل العقبات الناشئة عن الفروقات بين فئات الوطن المختلفة ، ونجحت «ديمقراطية وستمنستر» وحذا حذوها عدد من الدول القومية.

لجأت بعض دول العالم الثالث ـ يقول الكاتب ـ الى الانقلابات والحكم الدكتاتوري كبديل للديمقراطية الكلاسيكية ـ ديمقراطية وستمنستر ـ التي لم تنجح نتيجة للانقسامات الحادة في المجتمع، بيد أن فريقًا من علماء الاجتماع وفي مقدمتهم ارنست ليبهارت تبنى مقاربة مختلفة في معالجة المشكلة ـ التوافق ـ ، وقد لاحظ ايفود دوتشاسك بأنه من أصل 150 دولة في العالم ، كانت هناك 10 دول فقط يمكن أن يطبق عليها المفهوم الأوربي للدولة القومية ـ حيث يمكن تطبيق ديمقراطية وستمنستر دون تعديل ـ.

ماهي العوامل التي أمنت قيام الديمقراطية التوافقية واستمرارها وتطورها؟

يجيب الكاتب على هذا السؤال بأن هذه العوامل تتمحور حول نمطين إثنين هما:

أولاً: البني الاجتماعية والوقائع الموضوعية، ويمكن اختصارها بأربعة رئيسية هي:
أ. حجم الدول ، ففرص قيام الديمقراطية التوافقية في الدول الصغيرة ـ كما في حالة لبنان مثلا ـ أكبر من فرص قيامها في دول كبيرة.

ب. التحدي الخارجي، حيث يشعر قادة الدول الصغرى ـ كما في حالة النمسا مثلا ـ بحاجتهم للتوافق أكثر من حاجة قادة الدول الكبيرة في مواجهة التحدي الخارجي.

جـ. ميزان القوى، فالتوازن النسبي بين الجماعات التي تضمها الدولة الواحدة يوفر فرصة أفضل لقيام الديمقراطية التوافقية من غياب مثل هذا التوازن. ولا يقصد بالتوازن هنا التوازن الديمغرافي ـ السكاني ـ فقط، ولكن ذلك يشمل سائر عناصر القوة والتأثير مثل القدرات الاقتصادية والثقافية والسياسية وحتى العسكرية. فنسبة الصينيين في ماليزيا 33% فقط ولكن تأثيرهم أكبر من ذلك بكثير.

ويرى التوافقيون أن اقتصار عدد الفئات أو الطوائف في البلد على ثلاث أو أربع هو الأفضل لنجاح النظام الديمقراطي التوافقي. وما ينطبق على الفئات والطوائف ينطبق على الأحزاب فعدد الأحزاب الأفضل هو ثلاثة أو أربعة.

د. التباينات الواضحة، حيث يعتقد الديمقراطيون التوافقيون أن وجود التباينات الواضحة بين فئات المجتمع وكثافتها وتراكمها لا يذهب بالضرورة بوحدة المجتمع والدولة ولا يقضي على فرصة تطوره الديمقراطي، بل يشجع على قيام ديمقراطية توافقية فيه.

يرى علماء الاجتماع أن الهندسة التوافقية صعبة في غياب الثقافة الديمقراطية

إنه يخفف من شعور الغبن والإحباط والانسلاب الذي يعتري بعض الفئات عندما تشعر بأن صوتها غير مسموع.

ثانياً: الفاعل في تحقيق الديمقراطية التوافقية:

يشترط ليبهارت شرطين مهمين لنجاح ما يسميه بالهندسة التوافقية:
الشرط الأول: هو توصل الجناح الحاكم والمستأثر بالسلطة إلى الاقتناع بأنه لم يعد يملك المسوغ والمشروعية للاستئثار بالحكم، عندها قد يتجه الحاكم إلى عقد صفقة مع الأطراف الأخرى من أجل البقاء كشريك في الحكم. وهذا ما حدث في النمسا بعد الحرب العالمية الثانية.

الشرط الثاني: هو امتلاك أطراف النخبة القدرة والعزم والدوافع الكافية لبناء النظام الديمقراطي التوافقي وإيمانها بمباديء وطنية تتجاوز الانقسامات الفئوية أو الطائفية. مع ملاحظة أن هذه الميزات قد تتوفر في بعض أفراد النخبة قسما من الوقت، ولكنهم يفقدونها مع استقرارهم في السلطة ومع استفحال تعلقهم بها.

وينتبه الكاتب إلى ضرورة ذكر محاسن ومساؤي النخب، فيستعير من ليبهارت تنبيهه إلى أربعة جوانب تؤثر على دور النخب في دول العالم الثالث، منها إثنان قد يؤثران بصورة سلبية على الدمقرطة التوافقية وهما:
الأولى: العصرنة العشوائية وغير المتوازنة، وهي التي تفسح المجال أمام الزعماء لتقديم تنازلات متبادلة للتوصل إلى التحالف والتآلف. يجب أن تكون العصرنة مبنية على أسس علمية واقتناع بها من الأطراف المعنية.

الثانية: ضعف الثقافة الديمقراطية: يرى بعض علماء الاجتماع أن الهندسة التوافقية صعبة في غياب الثقافة الديمقراطية، ويعتبرون أيضًا أن هذه الظاهرة منتشرة في العالم الثالث، رغم أن ثقافات هذه الدول قد تحوي ثقافة ديمقراطية مخفية أو مهملة.

وفي الوقت الذي ينبه فيه الكاتب إلى أنّ العاملين السابقين قد يؤثران سلبًا، فإنه في المقابل يقول إنّه هناك عاملان يسهلان الدمقرطة التوافقية هما:

أولاً: ذكريات الكفاح المشترك ضد الاستعمار بما كان يمثله من خطر على سائر الفئات أو أكثرها، مما يساعد على التغلب على عوامل الانقسام.

ثانيا: الصلات الإنسانية التي تربط في أكثر الحالات زعماء الدول الناشئة في العالم الثالث بعضهم ببعض. إن هذه العلاقات الاجتماعية والصلات السياسية والخلفيات الثقافية تسهم في فتح أبواب التآلف والتفاهم بينهم.

وللديمقراطية التوافقية خصائص كثيرة، يذكر مها الكاتب أربع خصائص رئيسية ـ حسب ليبهارت ـ هي الإئتلاف الكبير، والفيتو، والنسبية، والاستقلال الفئوي.

. الائتلاف الكبير: هذا النوع شائع في سائر الدول الديمقراطية، ففي الدول التي تتبع النظام الأكثري تلجأ الأحزاب الرئيسية إلى تنفيذه في الملمات والأزمات والتحديات الخارجية.

. الفيتو المتبادل: بحسب هذا الترتيب فإن كل جماعة مشتركة في الائتلاف الوفاقي لها الحق في استخدام الفيتو. ويسمح حق الفيتو للفئات المختلفة بمنع صدور نمط معين من القرارات التي تمس المصالح الحيوية للجماعات المؤتلفة، ويجري استبعاد أداة الفيتو واللجوء للتصويت عندما يكون القرار عاما يهم الجميع.

والفيتو ثلاثة أنواع: الأول فيتو غير مقنن كما في سويسرا وهولندا، وفيتو مقنن بقوانين ومواثيق كما في النمسا، وفيتو جزء منه مقنن وجزء غير مقنن كما في بلجيكا. ويعتبر نقاد الديمقراطية التوافقية أن الفيتو في الوقت الذي يحد من دكتاتورية الاغلبية فانه يفسح المجال بالمقابل أمام قيام دكتاتورية الأقلية التي قد تمارس دور المعطل لسير اعمال الدولة ومشاريعها، ففي سويسرا مثلاً تستطيع مقاطعة ـ كانتون ـ لا يزيد عدد سكانها عن 20% من مجموع سكان سويسرا من استخدام الفيتو لمنع اقرار مشروع يفيد البلد بصورة عامة.

3. النسبية: يرى ليبهارت أعطاء نسب متساوية للفئات رغم عدم تساوي عدد أفرادها كما في بلجيكا مثلاً حينما مثلت الجماعة الفرانكوفونية على نفس المستوى مع الناطقين بالهولندية رغم أن حجم الأخيرين كان أكبر من حجم الأولين. وتشمل النسبية أيضًا التوزيع العادل للمناصب والمسؤوليات والمنافع المادية والمعيشية والمقاعد النيابية والمناصب الوزارية، مع اشراك الفئات المؤتلفة في آليات ومواقع صنع القرار وبصورة تتناسب مع حجمها وأهميتها.