Atwasat

ترحال: الأرنب والذئب (في شراكة القويّ للضعيف)

محمد الجويلي السبت 01 نوفمبر 2014, 02:39 مساء
محمد الجويلي

أثار حضور السفير الأمريكي في أحد مكاتب الاقتراع يوم الانتخابات البرلمانيّة في تونس، بوصفه مراقبا دوليا، استهجان بعض الحاضرين من المقترعين الذين رفعوا في وجهه شعار"ديكاج"(ارحل) الشهير مندّدين بوجوده هنالك صارخين"لا أمريكا ولا قطر الشعب التونسي شعب حرّ".

ما لفت انتباهي في هذه الحادثة هو التعليق عليها خاصة على صفحات الفايسبوك من قبل بعض السياسيين الذين دافعوا عن وجود السفير الأمريكي وعن مبعوث الاتحاد الأوروبي كذلك باعتبار أنّهما يمثّلان شريكين أساسيين لتونس وقوّتين عظيمتين في العالم لا مناص من الشراكة معهما ولا حول ولا قوّة للتونسيين والعرب أجمعين، بل بلدان العالم كلّها من التعامل معهما وقبول الشراكة معهما مكرها أخاك لا بطل، ما أثار في ذهني تساؤلات حول مفاهيم الحريّة التي رفعها هؤلاء الساخطون في شعارهم و"الشراكة " التي حاول البعض من الحكماء والمتعقّلين من خلالها التلطيف من سخط هؤلاء والحدّ من غضبهم علاوة على مفاهيم أخرى ولّدها السياق مثل"القوّة" و"الضعف" و"الحقّ" وغيرها من المفاهيم التي لم أجد في ذاكرتي أفضل من حكاية شعبيّة تجري على لسان الحيوان وتُوجد في أقطار المغرب الكبير بروايات مختلفة في بعض الجزئيات البسيطة في القطر الواحد نفسه كان الأجداد من الرجال يربّون بها أطفالهم ويهيئونهم للتعامل مع شراسة الاجتماع البشري وتوحّشه.

إنّ تاريخ الحقّ هو تاريخ القوّة

تقول الحكاية أنّ ذئبا وأرنبا (وهي هنا أنثى من خلال السرد) اتّفقا على أن يشتركا في استثمار قطعة أرض وزرعها قمحا، على أن يقتسما بالنصف محاصيلها. تمّ الاتفاق على هذا النحو، ولمّا جاء يوم القسمة بعد أن حصدا السنابل ودرسا الحبّ معا، طفق الذئب يكيل القمح مردّدا "حصّتان للذئب وحصّة للأرنب، رضيت أم لم ترض. لا يهمّ"(تاكل وإلّا يجعلها لا تاكل) والأرنب واجمة من هول الصدمة وصلافة الذئب ووقاحته ولم يعد لديها شكّ في أنّ الذئب سيستولي منها على حقّها. التفتت إليه في لطف وقالت له"ما بك على عجلة من أمرك؟ أنا ليس بحوزتي حتّى ما أحمل فيه نصيبي من القمح. انتظرني قليلا حتّى أذهب للبحث عن أكياس وأعود إليك".

غابت الأرنب برهة قصيرة من الزمن ثمّ رجعت خلسة والذئب منهمك في كيل الحبّ كما أراد له هواه مصطحبة معها كلبا سلوقياّ غطّته بقفّة ولم تترك إلّا أذنيه ظاهرتين وطلبت منه قائلة"هيّا فلنواصل القسمة".

وما إن رفع الذئب رأسه حتّى لمح أذني السلوقي منتصبتين [كالصاروخين كان يحلو لي أن أشبّههما لعمّ والدي الذي طالما استمعت إلي هذه الحكاية على لسانه] حتّى طفق يكيل القمح مردّدا هذه المرّة:"حصّتان للأرنب وحصة للذئب رضي أم لم يرض. لا يهمّ"( ياكل وإلّا يجعله لا كلى)"حصّتان للأرنب وحصّة للذئب ياكل وإلّا لا يجعله كلى. أوذان الحق بانوا".


تنقلنا الحكاية إلى الحياة الزراعيّة وإلى المجتمعات المغاربيّة التقليديّة التي كان أغلب سكّانها يعيشون فيما مضى على الزراعة والرعي فقط ويدخل أفرادها في شراكات تنتهي في كثير من الأحيان إلى خصومات ونزاعات تكون فيها الغلبة للقويّ الذي يستفرد بالحصّة الأكبر، بقدر ما تنقل إلينا قصّة الشراكات بين الأقوياء والضعفاء على مرّ التاريخ، بما في ذلك تاريخ الدول.

فهي على بساطتها تطرح إشكاليّة معقّدة حول فلسفة الحق (وهو عنوان لكتاب من كتب الفيلسوف الألماني هيغل Hegel) ولكنها، على عكس التفسيرات الايديولوجيّة وتبريرات السياسيين "الضعفاء" الذين يجدون أنفسهم وجها لوجه مع القوّة فيبرّرون الشراكة معها بعنوان الصداقة وأحيانا بالأخوّة ويتهرّبون من الإجابة الصريحة والواضحة، تعرّف الحكاية الحقّ بأنّه حقّ الأقوياء، وإذا سمحنا لأنفسنا بأنّ نعرّف الحقّ استنادا إلى هذه الحكاية وعلى طريقة الفلاسفة نقول:"إنّ تاريخ الحقّ هو تاريخ القوّة" أو القول"لم يكن الحقّ يوما إلّا حقّ الأقوياء". في حكايتنا إذن عمق فلسفي ومساءلة حول الحقّ الحقيقي وماهيته.


لم يكن ميزان القوى في البداية لصالح الأرنب، فالذئب أقوى منها وضرب عرض الحائط بكلّ المواثيق والأعراف. إنّ الشراكة تنطوي على معنى الصداقة[ صداقة زائفة بالطبع فلا صداقة بين ضعيف وقويّ] التي تنكّر لها الذئب وهو يردّد في استخفاف متكبّرا متعجرفا لا مباليا برضا الأرنب من عدمه وتكبّر الأقوياء واستخفافهم بالضعفاء من شركائهم بما في ذلك في ما يُطلق عليه اليوم تسمية المجتمع الدولي نلاحظه اليوم وبالأمس القريب والبعيد بوضوح ولسنا في حاجة في الحقيقة للتدليل عليه.

غير أنّ انقلابا في ميزان القوى حدث عندما استنجدت الأرنب بالسلوقي وتحالفت معه وهو عدوّ الذئب اللدود وأقوى منه. ظهر الحقّ وزهق الباطل بظهور أذني القوّة الأقوى. لكن هل ظهر الحقّ فعلا؟

في الحقيقة ظهر كلّ شيء في الحكاية تماما كما في الحياة الإنسانيّة ما عدا الحقّ! في البداية كان للذئب مثل حظّ الأرنبين وفي النهاية كان للأرنب مثل حظّ الذئبين وغاب في الحكاية الحقّ الحقيقي وهو أن يكون لكلّ واحد منهما مثل حظّ الآخر ما داما قد حرثا وحصدا ودرسا معا.

هذه الحكاية تصلح أن تكون من الأدبيّات التي يستند إليها مناهضو العولمة وشراكة الدول الضعيفة مع الدول العظمى في الغرب نفسه لأنّها تقول ما يقوله هؤلاء للشريك الضعيف ضعف الأرنب: أن تشترك مع من أقوى منك ومن هو في طباع الذئب هي الخسارة بعينها وفي كلّ الحالات فإنّ هذه الشراكة لا يمكن أن تكون رابحة إلّا إذا طلبت النجدة ممّن هو أقوى من شريكك. التجأت الأرنب الضعيفة البراجماتيّة إلى التحالف مع السلوقي للحفاظ على مصالحها، ولكن السلوقي حضر هذه المرّة وقد يغيب في المرّات الأخرى والقوّة الحقيقيّة هي التي يكتسبها المرء من ذاته أوّلا قبل أن يبحث عنها لدى الآخرين الذين قد يقفون إلى جانبه ليس للّه في سبيل اللّه وإنّما طمعا فيه، فيجد نفسه مثل الهارب من القطرة فإذا به يجد نفسه تحت الميزاب أو من يهرب من الغول فيقع في براثن"سلّال العقول" كما تقول الحكمة الشعبيّة. هناك نوع آخر في التراث العربي والعالمي من الأرانب ذكورا وإناثا يتصرّف بطرق أخرى مختلفة عن أرنبنا لمواجهة القوّة والبطش دفاعا عن النفس، قد نعود إليه في مقال آخر، ولكن لا بدّ من الإشارة إلى أنّ حكاية اليوم تطرح في حقيقة الأمر أكثر من إشكال، أوّلها أنّ الذئب قد يفرض بالقوّة شراكته عليك وليس باختيارك وأنت الأرنب المجرّد من التكنولوجيا ومن أسباب المناعة الأخرى ولا ينتظر موافقتك على ذلك، وقد يذهب إلى أبعد من ذلك في أن يشترك معك في أرضك بالفلح وجني المحاصيل التي لا يعطيك منها إلّا ما يسدّ رمقك، وقد يذهب إلى أبعد من ذلك إذا تعنّتَّ بأن يسلبك أرضك ويطردك منها هذا إذا لم يجهز عليك ويقتلك، والتاريخ الإنساني حافل بمثل هذه الأمثلة منذ أقدم العصور.

لم يكن الحقّ يوما إلّا حقّ الأقوياء


هناك مدارس وتوجّهات" أرنبيّة "مختلفة. لدينا الآن مثال بشار الأسد الذي سارع بعد أن كان شريكا مميّزا لفرنسا، وحتّى لأمريكا، في الاستنجاد بأذني السلوقي الروسي تشبّثا بالبقاء. وبالأمس كان لدينا بورقيبة الذي حذّر القذافي من بطش أمريكا والغرب في خطابه الشهير بقاعة البالماريوم في تونس العاصمة سنة 1974 قائلا له"رد بالك من أمريكا تعطيك كف"، أي تصفعك إذا ما تطاولت عليها بعد أن فصّل له القول في ضعف الدول العربية العلمي والتكنولوجي بما في ذلك تونس التي كان لا بد له فيها وهو رئيس الدولة من الاستنجاد بفنّي فرنسي كلّما تعطّل مكيّف الهواء في قصر قرطاج، شعاره في ذلك حكمة المتنبّي"الرأي قبل شجاعة الشجعان" وعلى نقيضه عرفنا القذافي نفسه الذي استأسد لأربعين سنة وتنكّر لمنزلته الأرنبيّة قبل أن ينتهي"أرنبا" ويعود إلى هويته الحقيقية، وقبل ذلك عرف صدّام حسين نفس المصير في صراعه مع الذئب الأمريكي لأنّه لم يأخذ بعين الاعتبار منزلته الأرنبيّة، ليس كناية على شخصه وإنّما على وضعه السياسي والحضاري ولافتقاد دولته لأسباب المناعة التي تجعلها متكافئة القوّة مع أمريكا. وهلمّ جرّا. فالأمثلة عن الأرانب والذئاب في التاريخ العربي والإنساني لا تحصى ولا تعدّ.