Atwasat

«سيد الرايحة يفتح فم البقرة»

جمعة بوكليب الأربعاء 16 نوفمبر 2022, 11:41 صباحا
جمعة بوكليب

العنوان أعلاه مثل شعبي سوداني، ومعناه، أن سيد الرايحة، أي من ضاعت له حاجة، يفتش عنها في كل مكان، حتى إلى لو اضطر من شدة يأسه، إلى فتح فم بقرة، على أمل أن يجد ما أضاع. وهو مثل بليغ جداً. وتذكرته، أخيراً، وأنا في صدد البحث عن أوراق قديمة أضعتها، ولم أجدها. حينها، تذكرت المثل الشعبي السوداني، وابتسمت يأساً، لأني من شدة إحباطي، أدركت أنني لو امتلكت بقرة، لكنت لجأت إلى فتح فمها، والبحث عن تلك الأوراق المهمة الضائعة. لكني، آخر الأمر، لديّ اقتناعي بإخفاقي، ولأطمئن نفسي، حمدت الله أن الضياع اقتصر على أوراق قديمة، ولا غير.

هناك أناس، أعرفهم شخصياً، أضاعوا حيوات كاملة، جرياً وراء أوهام اخترعوها، وعادوا من المشوار بخفيّ حنين. وتبيّن لهم، في آخر العمر، أن إمكانية تصحيح الأخطاء، ومحاولة بناء حيوات جديدة، لم يعد ممكناً. وأن ما فات فات، وما ضاع من أعمارهم يستحيل أن يعود. وتأكدوا أن ليس لهم سوى العيش متصالحين مع ما اقترفوا من أخطاء، وقبول مسؤوليتهم عنها بشجاعة، ومحاولة التوافق مع الحياة فيما بقي لهم من وقت. لكنهم، إلى يومنا هذا، ما زالوا يصطلون في جحيم نيران الندم. وهم لا يستحقون التعاطف.

هناك أمم وشعوب كذلك أضاعت أوطانها. الضياع، في هذا السياق، لا يعني اختفاء تلك الأوطان، بل يعني أن مقاليد الأمور في تلك الأوطان أضحت خارج أيادي أبنائها، وليس باستطاعتهم استعادة ما فقدوه، بعد أن خُدعوا أو طمعوا، أو الاثنين معا، وسلموا مفاتيح أوطانهم إلى غيرهم من الأمم. وبذلك أصبحوا، من حيث لا يدرون، «ذوايح» في بلدانهم. وهم، أيضاً، لا يستحقون التعاطف.

وهناك أجيال أضاعت أحلامها. الضياع، في هذا السياق، لا يعني أن تلك الأحلام الضائعة لم تكن قابلة للتحقق. احتمال تحققها كان كامناً وممكناً. لكنها أجهضت بفعل فاعل. الحلم بالعيش في وطن حر وكريم، على سبيل المثال لا الحصر، كان حلم جيلنا والجيل الذي سبقنا. وهو حلم ليس مستحيلاً، بمعنى أن قابليته للتحقق كانت جد ممكنة، لو خلصت النوايا وتوفرت العزيمة. لكن ذلك الحلم الجميل ضاع منّا. وواضح أن البقرة المذكورة في المثل الشعبي السوداني، بريئة منه، ولم تقترب منه إطلاقاً، لأن نخباً حاكمة مستبدة، ابتُلينا بها، سبقتها إلى ذلك، وافترسته بوحشية، وتركتنا في آخر الطريق تمضغنا الحسرة. إذا نظرنا للوراء نرى استحالة العودة إلى أول الطريق. وإذا نظرنا أماماً، لا يقابلنا سوى الرماد. وربما كنّا لصدقنا وحماسنا نستحق التعاطف. إلا أن سذاجتنا المبالغ فيها تحول دون ذلك.

وما حدث هو أن فم البقرة، المذكور في المثل الشعبي السوداني، حتى بعد أن فتحناه، في سعينا للبحث عما أضعناه، لم نجد بداخله سوى أسنان البقرة ولسانها الطويل وما تجترّه من بقايا طعام. وأدركنا فيما بعد، أننا حتى لو بحثنا في أفواه كل قطعان البقر في العالم لن نحصل على المراد. والسبب، لأن الأحلام، حسبما يبدو لي، تكون أحياناً مثل البشر لا تمتلك الخلود، بل مصيرها الفناء. وأن من ينجح منها في الفكاك من أسر الفناء، والتمتع بحق الخلود قلة قليلة. وأن استمرارها نابع من مصداقية وعزيمة من حملوها في قلوبهم، وحرصهم على ألا تنطفئ الشعلة، ولذلك عملوا على حمايتها من الرياح والزوابع، وتسليمها إلى الجيل الذي تلاهم. وهؤلاء، أكثر من التعاطف، يستحقون الحب.