Atwasat

بين تروندهايم وكرسا قصائد تهاجر

سالم العوكلي الثلاثاء 20 سبتمبر 2022, 11:07 صباحا
سالم العوكلي

هذه إحدى الرسائل بيني وبين الشاعر عاشور الطويبي الذي كان مقيما في النرويج، أو بين بلدة تروندهايم في أقصى الشمال الأوربي وقرية كرسا في أقصى الشمال الأفريقي، تقع قرية كارسا على خط طول 32.45 وخط عرض 22.40. وتقع تروندهايم على خط العرض: 63.4346 و خط الطول: 10.3985. تبودلت هذه الرسائل عامي 2017 و 2018، وهي جزء من مخطوط مسمى «كما تمضي القصائد: رسائل بين عاشور الطويبي وسالم العوكلي» يكتب الآن مقدمته الشاعر خالد مطاوع:

يومك طيب عزيزي عاشور، كم أغبطك حتى وإن كنت قصيا على أن تبدأ يومك بإفطار شهي تتذوق فيه الشعر وتمتصه إلى روحك وتعيده بنكهتك ونكهة لغة حلمتَ بها وتألمت.

تقول، "فأنا أعيد كتابة ما قاله الرومي وأمدّه وأنقله إلى مستويات وثنيات أخرى". عن ترجمتك لشعر جلال الدين. فهل مازال هذا يقع تحت عنوان الترجمة أو أننا في حاجة لتسمية أخرى لهذا الامتصاص الذي يشبه امتصاص النحلة للرحيق وتحويله إلى ماء حلو.

سؤال كثيرا ما راودني: ماذا يمنح الشاعر لمترجم الشعر وماذا تمنح ترجمة الشعر للشاعر؟ في حالتك كثيرا ما أجد الشاعر الخلاصة لدرجة أن القصيدة التي يخلقها عاشور، أو القصيدة التي يعيد خلقها، لا تخرجان عن ديوان الشاعر، عن نكهته، ملامحه، اهتمامه. ثمة كائن يسبح ويغوص في البحيرة ويخرج مبللا ومملوءا بجماليات القاع وتكويناته التي يجعلنا صفاء اللجة نراها بوضوح.

إقامتك في الشعر وإصابتك بوسواسه القهري قد تجيب عن سؤال الشعر والترجمة، خصوصا حين تكون الترجمة استمتاعا بخلق إضافي وليس مجرد وظيفة أو نقل، وهذا ما يجعل من اختيار النصوص جزءا من المهمة المقدسة.

حين كنا ليلة في أحد فنادق طرابلس مع مجموعة من شعراء العالم في غرفتي وكنت ترتجل ترجمة ما ألقيه من قصائد محلية، قالت لي الشاعرة إيمان مرسال التي تجيد اللغتين: عاشور دا معجزة.. تحفة، إنه يترجم فورا الشعر وكأنه جلس طويلا على النص وانتقى المفردات بعناية، لا أعرف كيف تسنى له هذا القاموس الحاضر. فقلت لها لا أعرف كيف تحولت كلماتي لكن عاشور كائن شعري بامتياز، واللغة ذخيرته في مواجهة النص ومواجهة الفراغ السابق للنص (هذه الجملة الأخيرة لم اقلها لإيمان لكني أقولها لنفسي الآن).

ترجمة الشعر الفورية. يا لها من عبارة مربكة لكنها ممكنة حين تكون اللغتان طوع أمر المغامر، وحين يكون الفضاء الشعري محل إقامته الدائم.

الأيام الفائتة ذهبت إلى الصديق أحمد يوسف عقيلة حيث التقينا معك يوما صحبة عمر الككلي في تلك القمة الجبلية التي يحيط بها حشد من شعراء العامية الذين يتناسلون كالذئاب، أما الوقت الذي يجمعك مع الطويبي والككلي وأحمد يوسف فهو ثمين، وثمين لأنه نادر، ولأن الأرض الوعرة كفيلة يوما ما بأن ترمي كل واحد من تلك الصحبة في قارة. يا الله كم تبدو المسافة بيننا وبين السجن أو المنفى قصيرة، وكم تبدو بيننا وبين الوطن الذي حلمنا به طويلة.

في مثل هذه الأوقات التي يصبح سيدها العبث يهرب الشعر مني، أو يختبيء في ملجأ تحت الأرض وتصبح طقوس استعادته صعبة. وقوع الحرب أسهل من انتظارها، وما أصعب الوقت الذي تكون فيه الحرب مفزعة وضرورة في الوقت نفسه. قرب درنة، الحديقة، التي اختطفها الطغاة الصغار بكامل ركابها يبدو أن لا حل في الأفق سوى الحرب وأن الطيور المصابة بالإنفلونزا لا طريقة للتعامل معها سوى بالحرق، ما أبشعها من صورة هذه الصورة الأخيرة التي قد تتسلل إلى قصيدة بحزامها الناسف وتجعلها أشلاء.

الانتظار هو المهنة الوحيدة التي نجيدها حتى الآن في مناخ صحراوي عاشت سلالاته منذ القدم تنتظر رذاذ الغيم كي تستمر في الحياة: اختبرت جميع أصناف الانتظار..

انتظارات وكفى، لا أملك حيالها سوى التحديق في الأفق. انتظار المطر في نهايات الخريف. انتظار أبي يعود من السوق قبل العيد بيوم. انتظار جرس الحصة الأخيرة.

انتظار العشاء بين فكي الرحى. انتظار غروب الشمس نهار صوم قائظ انتظار الامتحان. انتظار مواعيد الحب المتردد. انتظار عودة الكهرباء. انتظارا في محطات السفر. انتظار القصيدة التي لا موعد لها. انتظار إزهار شجرة ليمون زرعتها على عجل.

كل ألوان الانتظار انتظرتها بشغف وبرهبة أحيانا.. وبقلق، لكن لا انتظار يضاهي رعباً.

انتظارَ حرب لا اعرف متى تبدأ ولا أين تنتهي.

لست قويا بما يكفي لأكتب شعرا في زمن الحرب أو داخل زنزانة كما فعل شعراء آخرون. ولم أجرب المنفى الذي مازلت أنظر إليه برومانتيكية بالغة لأن أجمل الشعر الذي قرأته كان يتدفق من المنافي، وإذا كنت تذكر ضيوف مهرجان طرابلس للشعر العالمي الذي كان حلمك وتحقق مرة واحدة، وكثيرا ما يطرق الحلم الباب مرة أحدة، إذا كنت تذكر، كل الشعراء المشاركين جاءوا من المنافي، ولا أحد منهم يعيش في وطنه الأم رغم أننا نرى أوطانهم كالجنة على الأرض.

هل ثمة فارق جوهري بين أن يكون المنفى اختياريا ونوعا من الترف وبين أن يكون إجباريا ونوعا من الخوف؟.

ربما هذا ما يجعل جل شعر المهجر العربي يعج بالحنين إلى الماضي، بينما شعر منافي الاختيار يحن إلى المستقبل، مستقبل الإنسان الملاحق بأسئلته الشائكة حتى وإن كان مقيما في الجنة. لكنك تنجو من سيطرة هذا الحنين التقليدي وتكتب للإنسان في كل

وقت وفي كل مكان، والحنين الذي يتسلل إلى نصوصك نفسه الحنين حين كنت في بيتك الريفي الجميل في الطويبية الذي حرقه الطغاة الجدد.. حنين إلى أجنة الكائن الشعري حنين إلى طفولة الشاعر وطفولة اللغة.

شاعر المنفى الاختياري، أو المهاجر كطائر يعرف مواسم تصفح جمال العالم، ويعرف متى يشق البحر ومتى يجمع القش لبناء عشه، ومتى يستعرض كرنفال ألوانه ويرقص أمام أنثاه. هذا الشاعر الغريب الوحيد أراه جيدا في هذه الصورة المقربة من قصيدتك الأخيرة "شاعر خلف النافذة المبلولة يحرّك بأصابعه مفاتيح الكون" الشاعر الواحد الأحد، الإله الذي يمر عليه العابرون في طريقهم إلى المعابد دون أن يتعرفوا عليه.

حين أعلن في آخر تقويم لجغرافيا السعادة في العالم واحتازت النرويج على الترتيب الأول، لم يكن يعنيني من هذه النرويج سوى صديقي الشاعر المقيم هناك، في برد لم يألفه "كيف سيكون عندما يهجم الشتاء بسهامه الباردة؟"، وتحت شمس لم يختبر يوما مواقيتها، صديقي الذي انتقل من أرض يمر فيها الشفق كومضة شعرية سريعة لدرجة أن لا تستطيع عدسات المصورين اصطياده إلى أرض يدوم فيها الشفق فترة طويلة.

وحينها سألت نفسي هل صديقي عاشور سعيد في أرض السعادة حسب المعايير التي تقترحها الرياضيات؟ هل استطاع أن يتقاسم هذه السعادة مع من ولدوا هناك؟ أم أن السعادة نفسها هوية ليس من السهل اكتسابها بسرعة حتى وإن كنت في قلبها؟ وهل ما خرج به صديقي من ألم ووجع سيجعله جزيرة من الحزن تمشي على قدمين في وسط محيط من الكائنات السعيدة؟ أم أن القصيدة منفاه داخل المنفى.

ما يريحني أن الشعراء المقيمين داخل الشعر إقامة دائمة يصبحون تلقائيا خارج المكان وأن الاغتراب عن الوطن هو جزء من جوهرهم الشعري الذي يجعل الشعراء الكبار يغادرون سحر هذه الألفة إلى غبطة الاكتشاف، وكل قصيدة "كأثر الطائر الذي حط على الوردة ورحل".