Atwasat

ليست مجرد رقم

سالم العوكلي الثلاثاء 06 سبتمبر 2022, 11:22 صباحا
سالم العوكلي

سأبدأ هذا الشجن بمقدمة كتابي «دوار الحرية»، الذي ظهر إلى النور ضمن منشورات دار النسيم بالقاهرة، بالتعاون مع كتاب «218»، حيث أذكر في هذه المقدمة أنها مقالات منتخبة من مئات المقالات التي نشرتُها أسبوعياً في موقع «قناة 218»، من بداية العام 2016 إلى بداية العام 2021. لم ترتب المقالات زمنياً لكن وفق سياق الأفكار وتداعياتها كمحاولة لإدراجها في سرد حكاية متصلة، بكل ما فيها من صراع أفكار، وتنقيح، واستطراد، أو تراجع أحياناً.

وجلها منشغل بالشأن الليبي بين ماض هيأ المكان للانفجار، وحاضر يستجيب، ومستقبل ينازع، في سياق متغيرات عالمية أفردت لها بعض المساحة.

218 «ليست مجرد رقم» كما يقول شعارها، وفعلاً هذا الرقم يعرفه جيداً من عاشوا خارج ليبيا، أو أُجبروا على المنفى حين كان مفتاحهم للتواصل مع شجون الوطن وأشواقه ولهجاته، فهو رقم حميمي مرتبط بالهوية بقدر ما هو مرتبط بالحنين.
عن طريق هذا الرقم في القناة وموقعها تواصلت مع ليبيا والكثير من القراء الليبيين الذين تشرفت بدعمهم أو بنقدهم أو تعليقاتهم، حتى القاسي منها.

أستطيع أن أفهم الحنين لدى من أجبرتهم القسوة على أن يغادروا وطنهم، لكن يصعب عليّ فهم الحنين إلى الوطن لدى من يعيش داخله. وربما هذا النوع من الحنين الذي شعرتُ به إلى الوطن دون أن أغادره ما يؤلف هذه الكتابات التي ما كان لها أن تكون لولا ما حدث، ولولا الخوف على الهوية، وعلى مصير هذا الجزء من العالم؛ الذي شاء التاريخ والجغرافيا أن يكون مأوانا ومهجع أحلامنا، وقد يشفع لي هذا الرافد العاطفي أخطائي أو انفعالاتي أو غضبي أحياناً.

راودتني كثير من أفكار المقالات، وأنا في طابور الغاز الطويل، أو طابور الخبز، أو طابور المصرف، وكم اقتبست من رؤى وأفكار من أحاديث البسطاء في تلك الطوابير، لذلك حرصت على أن تكون شهادة أكثر مما تطمح لأن تكون قراءة أو تفكراً. كتبت بعضها قرب عواء الرصاص أو دوي القذائف فوق منزلي، وبعضها في شبه عتمة حين كانت الكهرباء تنقطع لساعات طويلة، أو في قلب رعب عايشته عندما كانت رايات القتلة السوداء تمر من أمام بيتي.

وعندما كانت تصلني على الخاص أو عبر الموبايل التهديدات من كل حدب في هذا الوطن، وفي زمن كان يكفي أن تكون كاتباً تقول رأيك ليحز عنقك، أو تخترقه رصاصة، كما حدث لكثير ممن حلموا بوطن دافئ وملون.

وليس أصعب من الكتابة عن الألم وأنت في قلبه، أو على الحريق ودخانه في عينيك ورئتيك، ورغم ذلك حاولت ما وسعني ذلك أن أتماسك وأفكر بروية في ما حدث ويحدث، ولا يسعني إلا أن أعتذر عن كل سوء فهم أو تجنٍ غير مقصود، وعن كل جملة جازمة أو سياق واثق، وعن كل ما تسرب من يقين في كتابة كانت رغبتها أن تتعلم وتفهم وأن تطرح الأسئلة أكثر مما تتبجح بإجابة. ويظل عذري غير الكافي أن ما يكمن خلف هذه الكتابات قلق.

قلق على الأرض التي خرجتُ من باطنها حين أنجبتني أمي في أحد كهوفها، وقلق على المستقبل الذي يترنح في قلب عواصف تتجمع في الداخل وعواصف تهب من الخارج. والقلق، كما يقول كيركيجارد، «دوار الحرية».

والآن تنطفيء شاشة «218»، وتنطفي معها عيون كثيرة كانت مشدودة إليها، وأتمنى أن يكون الأمر موقتاً، لأن بانطفائها تنطفيء آمال قطاع واسع من الليبيين المصادرة أصوتاهم؛ الذين كانت تعبر عنهم، وكانت تشاهدهم كما يخبر شعارها، ولا أقول هذا مبالغة أو من واعز عاطفة، ولكن من واقع مشاهداتي اليومية، واحتكاكي بهؤلاء الناس الأغلبية الذين لا يراهم أحد.

هؤلاء من يسارعون للاستعداد كلما وعدوا باستحقاق لبناء دولتهم، وكلما لمع في الأفق بارق انتخابات أو استفتاء من أجل مستقبلهم، وباحتكاكي بهؤلاء كنت شاهداً على ظاهرة غريبة على الشارع الليبي، وهي التفاعل مع فضاء إعلامي يرون أنه يعبر عنهم ويطرح أسئلتهم، وأحياناً (يفش غلهم) حين يتعلق الأمر بكشف الفساد الذي ينخر قوتهم ووطنهم، معززاً بالوثائق والأدلة، أو بفضح أسرار مؤامرات تحاك ضد كل تطلعاتهم.

وحين يغيب القانون والعقاب الذي يعيد الاعتبار لهم، يرون في هذا الفضح الإعلامي نوعاً من العقاب الذي يواسي آلامهم وهم يرون اللصوص يصعدون المراتب، والكفاءات النزيهة تردم تحت في زحام من الأدعياء.

انحازت «218» ومنذ البداية علناً لكل مشروع حقيقي يتوجه صوب تصحيح المسار وتحقيق أهداف حراك فبراير، دون أن يفتر نقدها لأخطاء حتى من انحازت لهم في سياق انحيازها للمستقبل، وتوقفت بحماس عند أي مشروع يعيد للوطن بهجته مهما كان صغيراً، وليس بالدعم الإعلامي فقط، لكن بالدعم المادي البعيد عن التباهي والاستعراض، فدعمت مشاريع ثقافية وفنية في مناطق مختلفة من ليبيا، حريصة على أن لا يظهر اسمها.

فكل ما تطمح إليه أن تنجح هذه المشاريع المقاومة للقبح والمحتفية بالجمال، وأن تتكاثر وتتوسع، ودعمت إصدارات كتب، بل أخبرني القائمون عليها أن المؤسسة مستعدة لتمويل نشر أي كتاب ليبي، وعلى الكاتب أن يختار الدار التي تناسبه وستدفع المؤسسة التكاليف.

كثيراً ما أجد نفسي في وسط حشد من المواطنين، في مناسبة أو في طابور أو مقهى، وكثيراً ما يدور الحديث انطلاقاً مما يقدم في هذه القناة، في ظاهرة تصالح الليبيين مع فضاء إعلامي عاشوا عقوداً وهم يشككون فيه. وهذه هي الظاهرة الجديدة التي أشرت إليها.

وكانوا يتفقون على أن القناة تحترم عقولهم في خطابها ولغتها، وتحترم ذوقهم في أدائها التقني، خالية من القذف والشتائم والسخرية، والحض على الكراهية الذي تبنته بعض قنوات أخرى اقتصر عملها الإعلامي على بث الفتن وتوجيه السباب والشتائم.

يرد في بيان إيقاف القناة الصحفي ما يلي: «نحيي أيضاً زملاءنا في المؤسسات الإعلامية الأخرى، ونتمنى لهم ظروفاً أفضل وكل التوفيق، لم يكن أبداً من سياستنا منافسة أي زميل أو مؤسسة، واعتبرنا أنفسنا دائماً فريق ضمن وسط إعلامي يسعى للتنوع والانفتاح وتقدير جهد الآخرين واحترامه».

وهذه السطور تعكس خطاب هذه المؤسسة الأخلاقي ومهنيتها التي حافظت عليها حتى آخر لحظة بث، ودون أن تنكر انحيازها لكل ما ومن يمثل الحلم الليبي، لأن من يقف خلف هذا المشروع مثقفون ليبيون انشغلوا بالشأن الليبي منذ عقود، ولهم مواقفهم التي قد يختلف معها البعض أو يتفق، ولم يسكتوا عن حلمهم بوطن ليبي يتسع للجميع قبل أو بعد انزياح الكابوس.

كم تمنيت لقناة «218»، وبعض قنوات أخرى تعمل في المنفى ويحترمها المتابعون لأنها تحترمهم، أن تكون مقراتها في ليبيا، وأن تبث من داخلها، لكن هل تستطيع فعلاً؟ في قلب صراع تعوَّد قادته على إعلام تعبوي لا يجيد سوى التطبيل، وذي حساسية عالية من النقد، وهل يمكن أن توجد مشاريع تتصف بالكفاءة والمهنية في وسط صراع يُطفّح ويبهرج كل ما هو تافه؟ وهل من الممكن لجمال من أي نوع أن يعيش في خضم احتفال هائل بالقبح والخراب والفساد؟.

الفساد الذي أصبح عابراً للحدود، وغدا ذا نفوذ وقادراً على أن يجهض أي محاولة لفضحه أو مكافحته ولو إعلامياً، ويكفي مثالاً على هذه الاستحالة أن جريدة «بوابة الوسط» التي أكتب فيها منذ ثماني سنوات لا توزع في ليبيا ولم ألمس يوماً ورقها، وحيادها ومهنيتها هو ما يجعلها ممنوعة من التوزيع في كل جهات ليبيا، ومن قِبل كل الأطراف، وجميع الأطراف تحتاج إلى تطبيل وتزييف وليس إلى تقديم الحقيقة للمشاهد.

في هذا الوطن الذي تتراكم فيه القمامة في الشوارع وفي الحدائق الجافة وعلى جنبات الطرقات، ويزحف التصحر على أجزاء واسعة منه في حملة ضخمة لتجريف الغابات وقلع الأشجار، وتدفق مياه مجاريه في الشطآن، وتُزال فيه المعالم التاريخية والسياحية دون رادع، وتحارَب فيه فضاءات الفن والجمال وتقفل تباعاً، ويحرَّم فيه الاحتفال بأعياد الحب والميلاد، ويلاحق فيه كل نبض للإبداع أو الحلم، وتحرق فيه الكتب وتمنع الصحف المنفية من دخوله.

في هكذا احتفال ضخم بكل ما هو قبيح، ستتوقف مشاريع حالمة غايتها وطن جميل، وستنطفيء شاشات تعلق بها المسحوقون من الليبيين، وتضرر منها الفاسدون الذين يعيثون خراباً في هذه الأرض. لكن الحلم لن ينطفيء والجمال سينتصر؛ لأن المسحوقين والجياع والمضحوك عليهم لن يصبروا كثيراً كما علمنا التاريخ، لأن كل مشروع حقيقي سيترك رسالته في العقول وبذوره تنمو على مهل.