Atwasat

الحديث عن درنة

سالم العوكلي الثلاثاء 23 أغسطس 2022, 10:25 صباحا
سالم العوكلي

في سياق ما تعانيه مدينة درنة، كغيرها من المدن الليبية المتضررة جراء عقود من الفوضى، ومن الإدارة الجماهيرية ونظام الجمهرة الذي يقصي الكفاءات، نسمع في هذه الفترة أحاديث ملؤها شجن غير بريء عن الزمن الجميل المنقضي أو عن أبناء درنة البررة أو الأصيلين، وعن الزيارات الخاطفة التي يعتقد أنها من الممكن أن تصلح مدينة.

ارتبط معظم الزمن الجميل في ليبيا كلها بعقد الستينيات، وهو نتاج منظومة عمل إداري وتنموي وخدمي متقن، تصدت له كفاءات وطنية فترة النظام الملكي، وبالاستعانة بخبرات وطنية وعربية وعالمية، ووضعت أسس بناء الدولة الحديثة. وإذا لم تكن لدى أي مسؤول كفاءة، ومنظومة عمل سلسة، وفريق متجانس، وقاعدة تشريعية وقانونية، وجهات إنفاذ قانون صارمة، فإن كل طموح للبناء أو حتى الترميم، لن يتقدم خطوة. أما ما يخص عبارة ابن درنة التي تتكرر كثيراً، فهي مجرد شجن عاطفي لن يغير من الأمور شيئاً ما دامت القواعد القانونية والإدارية والرقابة المالية غائبة، أو غير مؤهلة، أو ينخرها الفساد.

وحقيقة ما تبوح به أشواق المدن، أو تتحدث عنه أجيال غابرة مما يسمى «الزمن الجميل»، كان يذهب في أغلبه إلى سيادة القانون فترة ما قبل الانقلاب، والنظافة التي تتمتع بها المدن والحواضر الليبية وحتى القرى، فلم توجد في تلك الفترة مدن فارهة، ولكن كانت الشوارع والطرق نظيفة، وأن تسكن في بيت متواضع أو حتى كوخ نظيف أفضل من أن تسكن في قصر تتراكم فيه وعلى جنباته الأوساخ والقمامة، كما تتراكم الآن على جوانب الطريق العام والطرق الفرعية. أذكر في تلك الفترة (ستينيات القرن الماضي) أن أبي، رحمه الله، كان عامل نظافة ورقابة على كيلو متر من الطريق العام يداوم فيه يومياً، وهكذا كانت الطريق كلها نظيفة ومصانة ومزودة بالإشارات والعلامات من رأس اجدير إلى امساعد، وحين أرى الآن القمامة تتكدس على جنبات الطرق وتزحف على الإسفلت، أدرك قيمة ذاك الزمن الذي كانت النظافة فيه أولويته رغم المظهر الفقير للقرى ولكثير من أحياء المدن.

النظافة أولوية، لكن ما يحدث في درنة هو العكس، مشاريع تُصرف عليها الملايين، غير مدروسة، ومعظمها لا يكتمل، أو لا يعمل إذا كان مشروع إنارة أو إشارات مرور ضوئية، وهي لا تمثل، في الواقع، سوى قنوات تبدو شرعية لاستخراج الأموال من الخزينة العامة وفق مستندات رسمية، من صيانة كورنيش، أو رصف شوارع، أو أعمال إنارة أو بنى تحتية وغيرها، وكلها تجرى في وسط أكداس من القمامة والنفايات التي تزداد يومياً، وكان الأَولى بهذه الأموال أن تُسخّر للنظافة كأولوية تتعلق بالذوق العام وبالصحة والبيئة، وأن تترك أعمال البنى التحتية لشركات كبرى تجيد مثل هذا العمل الذي يتطلب تقنيات وأموالاً وتخطيطاً سليماً، فالنظافة أولوية لأنها تتعلق بصحة المواطنين والأطفال وبمظهر المدينة الحضري وبالراحة النفسية فيها، ومن خصائص الليبيين في المدن أو خارجها الولع بالنظافة، والحرص على تجميل مكان عيشهم أو عملهم الخاص، وهذا ما نراه بجلاء داخل البيوت وفي المحلات والمقاهي الخاصة وغيرها، حيث يحرصون على أن تكون نظيفة ومرونقة، لكن الأرصفة والشوارع والحدائق والميادين كلها من مسؤولية الدولة التي للأسف تعمل بعكس طبع ومزاج الناس. (لاحظت في بعض الأحيان مواطنين قاموا بترميم الأرصفة أمام محالهم وتزيينها، ولكن مشاريع الدولة تدخلت وحفرت الرصيف وتركت الأحجار والتراب متراكما فوقها).

أناقة بيوت الليبيين من الداخل وتزيين مداخلها، وديكورات المحلات والمقاهي والممتلكات الخاصة تدل على أن هذا الشعب متحضر يعيش مع دولة متخلفة، وهي مشكلة تراكمت منذ عقود وليست جديدة، سببها الفشل الإداري وعدم الاستقرار وتطفيح الانتهازيين الجهلة بدل الكفاءات ليتقلدوا المناصب.

الأولوية الثانية بعد النظافة، وهي في الأساس جزء منها، حصر كل ممتلكات الدولة الليبية التي تم انتهاكها والبناء العشوائي فيها أو المتاجرة فيها، في المدينة وضواحيها، وغياب الدولة كخصم لهؤلاء المنتهكين هو ما جعلهم يقتحمون الكثير من المقرات والأراضي المملوكة للدولة وإثقالها بالمباني العشوائية أو تحويلها لمقرات للرابش، ومراراً كتبت عن هذه الظاهرة، ووجهت نداءات للجهات الأمنية المسؤولة، وحتى الجيش، كي تتدخل وتوقف هذا العبث بالأملاك العامة وبالبيئة، فالغابات تُزال، والشواطئ تُجرف وتُعزل بأسيجة وأسوار، والمناطق الأثرية تُنتهك، مع أن، وفق القوانين الليبية، الشواطئ، وحرمة الطريق العام، والغابات والمناطق الأثرية كلها ملك حصري للدولة، ولا يحق لأحد أن يبني عليها أو يحجزها بسياج.

والغريب أن سيارات الشرطة وجهات القبض القضائي الحري بها إيقاف هذه المخالفات تمر يومياً بقرب هذه المخالفات الجسيمة وكأن الأمر لا يعنيها، وحتى سرقات المعادن.
من فترة شاهدت في أحد شوارع درنة مجموعة من جنود الحرس البلدي يقتحمون مخبزاً نظيفاً وأنيقاً ويصادرون بعض ممتلكاته، رغم أنهم يسيرون وسط أكداس من القمامة وطفح مياه المجاري، وكأن هذا الأمر لا يعنيهم وليس أولوية، مثلما تتكدس الأجهزة الأمنية في البوابات المنصوبة على طرق استبيح محيطها بالمباني العشوائية وبأكداس القمامة وكأن مهمتهم الوحيدة تفتيش السيارات والمواطنين.

لا يمكن أن تتحدث عن مهمة إنقاذ مدينة أو قرية تعاني سوء تخطيط تراكم عبر عقود من التسيب دون أن ترسم تصوراً وخطة وفق دراسات ميدانية تضع الأولويات في اعتبارها، وتترك مشاريع البنى التحتية المكلفة، التي تحتاج إلى شركات مختصة وقادرة، للوقت المناسب، حتى لا تُهدر الملايين على مشاريع شبه وهمية، بعضها لا يكتمل ويسبب مزيداً من التشوه، وبعضها يُنفّذ بطريقة سيئة، وبعضها يُثقِل الأرض بإنشاءات مشوهة ستكون عبئاً على أعمال إعادة الإعمار حين تبدأ بطرق مدروسة. وواضح من هذه المشاريع أنها لا تسعى سوى لفتح قنوات لانسياب المال العام صوب أكبر قدر من المستفيدين منه.

أما الحديث المتصل عن الأبناء البررة، ومهما كان إخلاصهم لمدنهم أو قراهم، فلا يمت لمفهوم العمل الجاد بصلة، ولا يسعفه التاريخ ولا الجغرافيا، وهو مجرد كلام عاطفي ينتمي في أفضله لحالة من العنصرية فعلت فعلها في درنة وفي مدن كثيرة وفي ليبيا كلها، وهي أهم محفزات الخراب والفساد الذي نعيشه، لأن العمل الجزئي لن يستقيم إلا وفق منظومة إدارية ومالية ورقابية شاملة، ووفق تخطيط طويل المدى لا يجعل أعمال الترميم لدينا موسمية، ومجرد غنيمة أو «ياغمة» توزع موسمياً على سعداء الحظ. وهذا ما أقصده بالمنظومة المضادة والمشيدة ضد أي محاولة للإصلاح، التي من المفترض أن نكون تخلصنا منها ومن أمراضها النفسية الطاردة للكفاءات وللإصلاح وللعمل الجاد.

وفي العمل الجاد لا يمكن للعواطف ولا لهذه النزعات المريضة أن تنجز شيئاً سوى زيادة الاحتقان وتبذير الأموال في غير مهمتها، وتغليب الصراع الفئوي على الصالح العام. فمهما فرقتنا أعمال الكولسة ومثيرو العنصرية والفتن فإن الخراب الذي سيحدث يجمعنا ولا يفرق بيننا، فحين يعم الخراب الخدمات الصحية أو التعليمية أو البنى التحتية، وحين تتراكم القمامة في شوارعنا أو يتلوث هواؤنا فكلنا في الضياع سواء، لذلك من المفترض أن لا يعنينا في المسؤول، مهما كان أصله أو فصله، سوى الكفاءة والإخلاص والنزاهة، وكل ما نريده منه أن يجعلنا نسير في شوارع نظيفة صوب مستشفيات ومدارس نظيفة ومؤهلة، فالجهل والمرض لا يفرق بين أحد وأحد.

منذ أن توقفت الرؤى المستقبلية للتخطيط المديني وتوقفت الخطط الخمسية، توقف مشروع الدولة، وأصبح العمل مرتجلاً، والنظافة وطلاء الأرصفة والواجهات مرتبطة بزيارة القذافي أو أي مسؤول كبير، وكأن سكان المدينة حرام فيهم النظافة، بل إنه من خلال هذه الزيارات تعلن الجهات المسؤولة في المدينة إمكاناتها التي لا تظهر إلا تحت الضغط أو الخوف، وكأنهم يسخرون منا ويقولون لنا، بإمكاننا أن نفعل لكن النظافة خسارة فيكم.

للأسف، أصبح تخطيط الأحياء والمدن شبيهاً بتخطيط مخيمات اللاجئين المؤقتة، بل إني زرت بعض المخيمات، مثل مخيم اليرموك في دمشق، ووجدت أنه أفضل تخطيطا وبنى تحتية وأكثر نظافة من مدينة عريقة ومستقرة مثل درنة، وكأننا لاجئون في هذا الوطن أو إقامتنا فيه مؤقتة.