Atwasat

حماية الأمن القومي للدول كمفهوم مهدد لمبدأ السيادة

أبوبكر الحاسي الأربعاء 10 أغسطس 2022, 05:33 مساء
أبوبكر الحاسي

يحظى موضوع مبدأ السيادة بأهمية بالغة في المجالات المختلفة سواء في القانون والسياسة والاقتصاد، على اعتبار أن السيادة تعتبر ركناً من الأركان الرئيسة للدولة الوطنية، كما أنها من ضمن المباديء الأساسية التي ترسخت في القانون الدولي والعلاقات الدولية بدءاً من معاهدة وستفاليا العام 1648، مروراً بميثاق الأمم المتحدة العام 1945، وصولاً إلى الدساتير الوطنية والأحكام والقرارات الدولية التي تُدعِّم هذا المبدأ وتؤكد عليه.. فأهمية السيادة تعود إلى كونها كانت وما زالت تمثل معياراً سياسياً طالما يميز الدولة عن سواها من الدول.

إلا أن السيادة - مثلها مثل العديد من المفاهيم الاجتماعية الأخرى - قد تعرضت لتحولات بنيوية عميقة؛ إذ مع تطور المجتمعات والتغير المستمر في نمط وقواعد العلاقات الدولية - من حيث تزايد الحاجيات ومن ناحية المرجعيات السلوكية، جرى إقحام مفاهيم جديدة تقيد من مبدأ السيادة وتنتقص منه، كمفهوم العولمة، والتدويل، والإصلاحات السياسية، ومحاربة الإرهاب... إلخ. وتبعاً لتلك التحولات، ظهر أخيرا على المسرح الدولي مفهوم جديد يهدد مبدأ السيادة في العديد من الحالات، ألا وهو مفهوم حماية الأمن القومي.

إن مفهوم الأمن القومي يعد من المفاهيم الملتبسة في قاموس القانون الدولي والعلاقات الدولية؛ فمن ضمن الإشكاليات التي تواجه هذا المفهوم غياب تعريف رسمي متفق عليه، وهو الأمر الذي أكد عليه روني ليبشتز Ronnie D. Lipschutz عندما قال: «لا يوجد فقط صراع حول الأمن بين الأمم بل أيضاً صراع بين الأمم حول مفهوم الأمن». وهذا الصراع/ الاختلاف أدى بدوره إلى اتساع مجال تطبيق المفهوم على مستويات عدة؛ ليست سياسية فحسب، وإنما تمتد كذلك لتشمل ما هو اقتصادي واجتماعي وعسكري وثقافي. ولأن المقام لا يتسع للتفصيل في كل مستويات الأمن القومي، سنكتفي هنا بالمستوى السياسي الذي يمتد فيه المفهوم إلى حماية كيان الدولة داخلياً وخارجياً.

أما فيما يخص مبدأ السيادة، فهو أيضاً يعتبر من المفاهيم المثيرة للجدل، وعلى الرغم من وضوح مدلوله السياسي والقانوني فإنه يتعذر نظرياً وجود تعريف جامع مانع له، لكن حتى وإن تعددت التعريفات فإن الأصل واحد. ولكيلا نغوص في الجدل المفاهيمي حول هذا المفهوم، فإننا سنقتصر في تعريفه على ما جاء في المعجم الفلسفي لــ «جميل صلبيا»، حيث اعتبر هذا الأخير أن لفظ السيادة «يطلق على استقلال الدولة عن غيرها استقلالاً تاماً»، وفي تقديرنا أن السيادة بهذا المعنى تشمل سلطة الدولة التامة داخلياً وخارجياً.. وتتحقق حينما يكون بإمكان الدولة فرض القانون، وحفظ النظام العام، وتدبير شؤونها في الداخل والخارج بما يكفل حمايتها ونماءها واستقرارها، وبما يتسق مع تعهداتها والتزاماتها الدولية.

من خلال ما سبق، يتبيّن لنا مدى التشابك والتداخل بين مفهومي الأمن القومي ومبدأ السيادة، فهما- كما أشرنا سلفاً- يشتركان في حماية كيان الدولة من أي عارض خارجي؛ بيد أن هذا لا يسوغ بالضرورة التطابق التام بينهما. فإذا كانت الاستعمالات الوظيفية لمفهوم حماية الأمن القومي عادة ما تكون وفق محددات المقاربة الواقعية للعلاقات الدولية، والتي تتضمن من ضمن ما تتضمنه استهداف مناطق تعزيز النفوذ..، فإنه على النقيض من ذلك يندرج مبدأ السيادة في إطار المقاربة المثالية التي تشدد على المعايير القانونية وضرورة انسجام المصالح؛ الشيء الذي يؤكد وبقوة أنه ثمة تعارض قيمي صريح بين هذين المفهومين.

من هذا المنطلق، فإنه غدا من الضروري التفكير على المستوى الدولي في بلورة تعريف رسمي ومتفق عليه لمفهوم حماية الأمن القومي يتولى ضبط مجال حركته في الداخل والخارج، ويحدد المسافة الفاصلة بينه وبين المفاهيم الأخرى كمفهوم مبدأ سيادة الدول؛ وإلا فإن الالتباس المشار إليه سيظل قائماً. فالشكل الهلامي الذي يكتسي مفهوم حماية الأمن القومي يجعل منه عنصراً مهدداً.. وسيفضي إلى تناقض الرؤى والمصالح في المسائل الدولية لا محالة: فما يعد بالنسبة لدولة ما أمراً يهدد أمنها القومي، قد يكون لدولة أخرى متمثلا في فعل سياسي يدخل في سيادتها واستقلالها في قراراتها الداخلية والخارجية.

وفي هذا السياق، نستحضر الأزمة الروسية - الأوكرانية (2022) التي برز فيها هذا الخلط جلياً، حيث تعتبر روسيا الاتحادية أن انضمام أوكرانيا إلى حلف الشمال الأطلسي هو قرار يهدد أمنها القومي.. مما دفع روسيا وبدعوى «حماية الأمن القومي» إلى أن تتخذ قرار الدخول في العمليات العسكرية ضد أوكرانيا. بينما على الطرف الآخر، ترى غالبية الدول الأعضاء في الأمم المتحدة أن قرار أوكرانيا يدخل في نطاق اختياراتها السيادية كدولة مستقلة. ولهذا السبب، أدانت تلك الدول التصرفات الروسية؛ بل وذهبت إلى ما هو أبعد من ذلك بالاصطفاف المعلن مع الجانب الأوكراني، والمسارعة في تقديم المساعدات الإنسانية والعسكرية.

وبصرف النظر عن الأهداف السياسية والاستراتيجية الكامنة خلف الموقف الذي اتخذته غالبية الدول ضد روسيا في أزمتها مع أوكرانيا، فإنها- أي تلك الدول - استندت في هذا الموقف على المبادئ والقواعد المعمول بها في إطار المنتظم الدولي، وبالتالي فإن موقفها - من منظور قانوني - يحظى بالمشروعية، فعلى سبيل المثال نجد أن المادة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة تنص على «أن هيئة الأمم تقوم على مبدأ المساواة في السيادة بين جميع أعضائها»، فضلاً عن قرار محكمة العدل الدولية في قضية مضيق كورفو الشهيرة والذي يؤكد «بأن احترام السيادة الإقليمية فيما بين الدول المستقلة يعد أساساً جوهرياً من أسس العلاقات الدولية».

وعلى هذا الأساس، نخلص إذاً إلى أن مفهوم حماية الأمن القومي يقف وجوباً عند مبدأ احترام سيادة الدول. وبعبارة أوضح، فإن الانتقاص من سيادة الدول بدعوى حماية الأمن القومي يعد انتهاكاً صارخاً للمباديء والقواعد التي تنظم العلاقات الدولية. وفي الوقت ذاته، لا يفوتنا أن ننوه بأن توظيف مفهوم حماية الأمن القومي بهذه الكيفية وعند هذا المستوى هو تحول جديد، ومؤشر خطير يستدعي الوقوف عنده والتمعّن فيه، لأنه يشكّل دون أدنى شك تهديداً ماثلاً للسلم والأمن الدوليين؛ حيث لا نستبعد أن تتبعه تطبيقات مشابهة في نماذج أخرى من دول العالم، خصوصاً إذا تعلق الأمر بنموذج الدولة الهشة - التي بالنظر لضعفها قد تكون عرضة لأطماع الدول الأخرى؛ ونحن في هذا الصدد غير مستثنين من ذلك بطبيعة الحال. لذا فإن الوعي بخطورة هذا المفهوم وما يمثله من تهديد وجودي لمبدأ السيادة ليس ترفاً سجالياً مثلما يبدو في الأوساط المختلفة، وإنما ضرورة حتمية لا مناص منها.. وفعل استباقي يقي من التعرض لهكذا انتهاك في المستقبل.