Atwasat

مشكلة سيد الذباب

عبد الكافي المغربي الإثنين 08 أغسطس 2022, 12:33 مساء
عبد الكافي المغربي

فيما كان يعترض نجيب محفوظ وليد سنة 1911 مأساة وطنه المرتهن بنزوات إنجلترا بأمل لا يملك دونه خيارا، كان وليد العام نفسه «William Golding» رفيق الجائزة الأدبية ومبدع رواية المغامرة الرمزية يؤكد التزام المثقف الإنجليزي بعقلانية القرن الثامن عشر، أو عقلانية الجزيرة، عاكسا تجمد الفلسفة الإنجليزية المزمن الذي لطالما أنجدته فرنسا بإسهاماتها التي لا تنضب في المضمار الثقافي.

إن سيد الذباب لا شك تظل ملائمة للناشئة الذكية، بيد أن كندا، بنظامها التعليمي المناضل لاحتضان التنوع، منعت منذ الثمانينيات تدريس الرواية للمرحلة الوسطى (Middle School)، استجابة لاحتجاج أسر الهنود والكنديين السود على إعلاء الرواية للعنصر الإنجليزي الديمقراطي بصفته أشرف ما يمكن أن تبلغه البشرية. ولا شك أن الناشئة لم تخفق وحدها في التوغل في رمز الرواية، بل إن خبراء التعليم غفِلوا عن جوهر تصور المعلم «William Golding».

إن المشكلة التي يعرض لها «Golding»، نعني تفوق الإنسان في ممارسة الشر، هي بالتحديد ما نلمس فيها مشكلة رواية سيد الذباب الفعلية. إن الرواية وضد حدسنا هي رواية المغامرة التي بتشاؤميتها وانزلاقها إلى التأمل الفاشي خليقة بأن تصدم وجوديا سوداويا.
ولكن قبل أن نتصدى لمآخذنا ذات المسحة الأيديولوجية على الرواية فيما نمدح جماليتها البالغة الغاية في التفرد، يحسن بنا تبرئة الرواية من التعصب العرقي الذي أضر بحظوظها في نظام كندا التعليمي.

باختيار المعلم «Golding» أولادا بريطانيين لاستعمار الجزيرة الهادئة كان يهدف إلى تحقيق أن الهمجية عنصر أساسي في تكوين الإنسان المتحضر. وإذا كان أطفال الإنجليز هم بالخصوص أكثر الأطفال الغربيين التزاما باللياقة السلوكية في هذه الأيام، فهم كانوا أكثر تهذيبا ولباقة بما لا يقاس في عصر الملك جورج. إن لطف الطفل الإنجليزي وتهذيبه غير العادي إنما يعكس الإفراط في سلطة البالغين وحرصهم على قولبة أطفالهم في قالب فريد يوظف أخيرا في تسويق أسطورة التحضر الكامل والعقلانية النقية للأنغلوسكسون. سيد الذباب هي قصة البالغين وقد جن جنونهم فأشعلوا حربا عظيمة، فإذا بجماعة من الأطفال يفلتون من رقابة المحاربين، وفي فترة قياسية يقفز الأولاد من نموذج التحضر التام لاختبار إلى أي قدر يمكن أن تصمد جودة الملابس الإنجليزية، تألق بياض أصحابها، وفي المقام الأول متانة قيمهم المقدسة، لهذا الانجراف في عالم الطبيعة بشواغله الشاغلة أن يكشف عن المسخ فينا.

في مطلعها يقول جاك ذابح الخنازير، الطفل صاحب الشعر الأحمر، رمز الاستبداد والفوضى: «نحن إنجليز، لا بد أن نلتزم بالنظام ونؤكد إلى أي حد نفترق عن الهمجي». لكن مفارقة الرواية أن هذا الجاك هو نفسه الذي قاد انشقاق «قطيع الأولاد البريطانيين» على رالف كبيرهم المنتخب، وهو أطلق قطيعا من الضباع العاوية تقتفي أثر رالف في فراره من موت محقق على يد الأطفال الصيادين. جاك هو مبتكر العلامة، علامة العواء الضبعي التي يجب أن يصدرها كل صياد إذا تعرف على مكان رالف الخطير وطلب مددا.

إن من مفارقات الرواية العنيفة كما إن من برنامجها الأيديولوجي الاحتوائي اختيار السارد العليم في رواية أحداثها الغنية. هذا يمكن الأديب من الانسحاب من وجهة نظر شخصيته والتبرؤ منها. هكذا يمكن ألا ننحو على «Golding» بالاتهام في تقريع Piggy للأولاد الذين أغفلوا تغذية النار حتى غابت سفينة دون أن ترشدها المنارة إلى جزيرتهم: «ها أنتم هؤلاء يا (فروخ) تطلون وجوهكم بطين الأرض وتطاردون الخنازير مثل الهنود المتوحشين». إن مشكلة الرواية ليست في ما اعترضت عليه أسر الأولاد الهنود والأولاد السود وقبله مجلس التعليم الفدرالي انطلاقا من ليبرالية بيضاء مطلقة تميل إلى اتهام الغرب لتبهرنا بنزاهتها وصداقتها غير المشروطة، وإنما مشكلتها في احتوائها الطموح الإنساني وتأملاتها في الطبيعة البشرية، وهي تأملات في حال استغراقها يمكن، بحسب سارتر، أن تنعش الفاشية.

نظر ضابط البحرية الذي حل على الجزيرة كمَلك حارس لرالف المشرف على مواجهة موت عنيف، إلى القامات القصيرة للأولاد المجتمعين عند الشاطئ بعد التهام نيران الجحيم الذي أشعلوه للجزيرة كلها مستفهما: «كنتم تلهون، كان وقتا طيبا، أليس كذلك؟» إن هذه القامات القصيرة قتلت طفلين، وكانت تشرف على قتل الثالث لولا لطف المصادفة. وإذا كان الأطفال أنفسهم لا يقبلون أنهم قتلوا في نشوة الليلة المشؤومة «Simon» الولد القديس، وكذلك يصر الصوت الديمقراطي في الرواية على أن كل هذا لا يمكن أن يكون إلا حادثا مؤلما، ما يعكس شعورا بالأمن والثقة حاول الأديب بثه في قارئه الصغير، فإن القارئ المتأهب لقبول أن تجري الأمور على أسوأ حال يوشك أن يقبل موعظة الأديب: الديمقراطية الغربية والسلطة البوليسية هي فقط ما يمكنها أن تنقذنا من استبداد بعضنا ببعض، من فوضى جزيرة الجحيم. ونحن لا نخالف الأديب في إضاءته للاحتمال الكبير لشناعة الأطفال، فقد تسنى لي في طفولتي اختبار قسوة الطفل التي لا تقل شناعة عن قسوة أبيه، ولربما تجاوزتها بسبب الوضع الجنيني للضمير لديه. لكن ينبغي التأكيد على أن تأملات الأديب في الطبيعة البشرية المجبورة باستعدادها الظلامي تبدد آمالنا في أن تنضم هذه الرواية إلى صنف الأدب الوجودي. وأمام طبيعة «Simon» الخيرة الفاضلة التي أهلته دون الأولاد جميعا للشفقة على «Piggy» الطفل السمين شبه الأعمى المرفوض والمنبوذ، واختارت له التقاط نظاراته وتثبيتها فوق أنف المنبوذ بعد أن تحطمت عدستها اليمنى بلكمة جاك وأخذ الآخرون بالضحك يوحي لنا «Golding» أنه ليس غيرُ طبيعة بشرية ثابتة ومجبورة، وأن قداسة «Simon» هي ضد الطبيعة البشرية، وبالنتيجة لا بد لهذه الطبيعة نفسها أن تلفظه. هذا بالتحديد يكمن وراء تشكك النقاد الغربيين أن «Golding» قد جعل من «Simon» الصغير شخصية مفهومة، أو أنه قد منحه ما يكفي من مساحة لاكتشاف السيكولوجية الرومنطيقية الكامنة في هذا القلب الكريم. إن عالما لا وجود فيه للزِين بطل الطيب صالح هو عالم يدعوك حقا للانتحار، إن تشاؤمية «Golding» على هذا النحو تتجاوز كآبة الوجوديين، الذين يفسحون المجال للفرد للتسامي فوق القطيع، وتقر له بالحرية في أن يكون خيِّرا مثل «Simon» أو تجسدا للشر الكامل مثل «Roger».
حين يبكي رالف راثيا «ظلمة قلب الإنسان، وانحدار Piggy الصديق الحقيقي العاقل عبر الهواء إلى القاع» فإن «William Golding» يعوضنا عن تشاؤميته بإطراء عقلانية «Piggy»، عقلانية الجزيرة.