Atwasat

ستائر النسيان

محمد عقيلة العمامي الإثنين 08 أغسطس 2022, 10:07 صباحا
محمد عقيلة العمامي

منذ قرابة نصف قرن لم نلتقِ وكنا رفاقا. يونس كان قد سافر إلى إيطاليا وفضل المعيشة في ميلانو؛ التقيته مرات، ودائما أعود منه بانطباع جيد عن تطور لغته وثقافته ونسق حياته، ولكنني لم ألتقه لحوالي ثلاثين عاما. عبد المجيد كنا لا نفترق إلا وقت النوم، ثم لم نعد نلتقي لأشهر، وأحيانا سنوات، فلقد تبدلت أماكن عمله داخل ليبيا وخارجها. سالم لم أره طوال ربع قرن مضى، أما علي فلم ألتقه منذ أن قمنا معا برحلة إلى اليونان سنة 1967 وهي تلك التي أخبرتكم عنها من قبل، عندما عدت منها إلى بنغازي بضلع كسره لي أحد بحارة «المارينز» بحذائه العسكري نتيجة جدال تحول إلى عراك عن حرب النكسة، أو الهزيمة سنة 1967.

في تلك الجلسة تطور حديثنا عن ذكرياتنا إلى واقعنا، فلقد حاول بعضنا أكثر من مرة تذكر شيء ما، ولكنه لم يفلح! ومنها كان النسيان موضوع سهرة تلك الليلة، وأقول سهرة تجاوزا، لأنها لم تكن سهرة بالمعني المتعارف عليه، فلقد امتدت جلستنا من قبيل صلاة المغرب بقليل إلى ما بعد صلاة العشاء بقليل، فكانت بمفهوم واقعنا الحالي سهرة حقيقية.

سخر أحدنا من نسيان يتطور لديه، فقال:
« أحيانا، عندما أقف للحظات أمام الثلاجة، أنسى! هل فتحتها لأضع فيها، أو لأخذ منها شيئا؟ وكثيرا ما أقفلها وأعود من دون زجاجة المياه التي ذهبت أساسا لأعود بها إلى مرقدي! »
«خرف!» قاطعه سالم واستطرد ضاحكا: «أحيانا يناديني أحد أحفادي، وأنا أسفل السلم، وأتحدث معه قليلا وما إن يمضى حتى أقف لبرهة متسائلا في نفسي: «هل أنا نازل من السلم أم صاعد إلى شقتي!؟».

أما أنا أخبرتهم أنني توقفت عن قيادة السيارة، بعد ما أدرت محركها وبقيت لدقائق أحاول أن أتذكر إلى أين أنا ذاهب؟ وتدخل يونس وقال: «الحمد لله لم أصل هذه المرحلة». ونقر المنضدة الخشبية وقال قول الإنجليزي لإدراء العين: (Touch Wood) الحمد لله ما زلت بخير». وكرر النقر على خشبة المنضدة، وملامسة الخشب، هي علامة هذا المعتقد الإنجليزي، ثم التفت نحو الباب وقال: «الباب يدق! شوفوا من؟».

إنني على يقين أن معظم السبعينيين يعرفون مثل هذه الحالات وعاشوها. قليل منهم تدهورت حالته، حتى أن كثيرين يعجزون عن العودة إلى بيوتهم، وعديدون ينتظرون وجبة غدائهم التي التهموها منذ أقل من ساعة.

الصبيان بطبيعتهم يتطلعون دائما بشوق إلى تقدمهم نحو سن الشباب، ثم النضج، وينتهي الأمر بالتحسر على الشباب الذي مضى، بأيامه السعيدة، والفرص التي ضاعت والكثير مما كان يجب فعله ولم يفعلوه. وظللت مقتنعا بأن الإنسان هو الإنسان وأن حالتي مثلا، ما هي إلا تهاليل ما، قد يتطور مثلما رأيت أنه حدث بالفعل للكثير من رفاق دراستي. ولكنني، ارتحت بعدما قرأت مقالا أثراه كاتبه بأمثله لعبقريات لم ترتبط بالعمر، فمثلا أقام توماس إديسون مختبره في بيته، وبدأت منه أعظم الاختراعات وهو في سن 12، ولم يعرف أنه فقد ذاكرته أو حدة عقله. وأصبحت رواية الكاتبة الإنجليزية (جين أوستن – Pride & Prejudice – ) ثاني أفضل رواية نشرت لها وهي شابة، وظلت حتى رحيلها متقدة الذهن. وتولى جون كيندي رئاسة أميركا وعمره 43 سنة، وأصبح ونستون تشرشل رئيسا لوزرا بريطانيا وعمره 65 عاما، ولما استقال بعد فترة ثانية، كان عمره حينها 84 عاما، عاد كنائب عادي في مجلس العموم البريطاني وفاز بفترة ثانيه، ثم أقام معرضا لرسوماته ضم 62 لوحة وعمره 85 سنة. وتولت مارغريت تاتشر المرأة الحديدية رئاسة وزراء بريطانيا وهي في سن 65 سنة. وتمكن بنجامين فرانكلين من إقرار دستور الولايات الأميركية المتحدة بذكاء عندما نجح في تسوية خلافات المعارضين له، وكان حينها قد بلغ من العمر 81 عاما.

والأمثلة كثيرة ولكنني نسيتها ولولا عثوري على المصدر الرئيسي لهذا الموضوع، وهو كتاب نبهتني إليه شقيقتي، عندما أخبرتني أنني نسيته يوم تناولتُ معها وجبتي المفضلة، يوم الجمعة الماضية، فتذكرت أنه مرجعي، ولكنني نسيت ما هي الوجبة، وإن كنت قد أخبرتها أن الوجبة كانت بالفعل فخمة!

ولا أعتقد أن من قال: (ليس من شيء يثبت شيئاً ما في الذاكرة مثل الرغبة في نسيانه) على حق، لأننا ولدنا بستائر نسيان قادرة أن تُنسي المرء اسمه.