Atwasat

(1984)

جمعة بوكليب الأربعاء 27 يوليو 2022, 01:09 مساء
جمعة بوكليب

العنوان، أعلاه، لا علاقة له برواية «1984» المشهورة، للكاتب البريطاني جورج أورويل. والقراء ممن أُتيحتْ لهم فرصة قراءتها، على علم، بلا شك، بعالم تلك الرواية المخيف، وأجوائها المرعبة. لكن العام 1984 يعلّم لوقائع وأحداث سياسية حقيقية كثيرة، وعلى جانب كبير من الأهمية، وقد لا تختلف في أجوائها كثيرا عن رواية أورويل المتخيّلة.

ومن ضمنها الحرب المشهورة، التي شهدتها بريطانيا في ذلك العام، بين حكومة السيدة مارجريت ثاتشر المحافظة واتحاد عمال المناجم بقيادة النقابي المشهور آرثر سكارجيل. السيد آرثر سكارجيل ما زال حيّا يُرزق. وظهر مؤخرا في وسائل الإعلام، خلال إضراب عمال سكك الحديد.

وأُجريتْ معه مقابلات تلفزية قصيرة بالقرب من إحدى المحطات المقفلة، وصرح قائلا إنه جاء لتقديم دعمه ونصرته للعمال المضربين.

السيد سكارجيل كان، أيضا، صديقا للعقيد معمر القذافي، الذي كان متضامنا مع النقابيين ضد حكومة ثاتشر، لأسباب معروفة. وتبرع لهم بدعم مادي كبير. في تلك الفترة، كنتُ ضمن آلاف من سجناء الرأي في سجون الأخ الأكبر، الموزعة في جميع المدن الليبية.

وكنتُ مع رفاقي في السجن نتابع باهتمام تطورات المعركة الضارية في بريطانيا. المفارقة، أننا وجدنا أنفسنا، في تلك المعركة، نقف في ضفة واحدة مع السجان!! لكن هذا ليس ما تستهدفه هذه السطور، وربما نعود إليه في مقالة منفصلة مستقبلا. وما حدث هو أنني شاهدت مؤخرا مسلسلا دراميا تلفزيونيا تحت عنوان ( شير وود- Sherwood) بثته القناة الأولى «بي بي سي».

ويبدو على سطحه أنه مسلسل جريمة عادي، لكنه في العمق منه، جاء ليعيد للأذهان تلك الفترة التاريخية، ويضع المشاهدين أمام ما كان يجري حقيقة في تلك الحرب، وما كانت تقوله الروايات الرسمية الحكومية ووسائل الإعلام اليمينية.

اختار المسلسل بلدة صغيرة في منطقة نوتنغهام فورست، اسمها شيروود، لتكون مسرحا للوقائع. وهي بلدة صغيرة جدا وفقيرة، في منطقة كانت منجمية، وكان سكانها عمال مناجم فحم أبا عن جد. الخط الدرامي يسير في اتجاهين: الأول يتعقب مجرمين ارتكبا جريمتي قتل.

الثاني يغوص في خفايا ما كان يحدث من وقائع، وما كان يدبر وراء أبواب مغلقة في لندن ضد العمال المضربين. والحربُ هي الحربُ، وإن تغيّرت مناطقها وأطرافها، واختلفت أسلحتها، لا تخرج عن سياقها المعروف. حيث الخيانة، والغدر، وتغير الولاءات و الاصطفافات، وحيث المال الذي يمثل تاريخيا الجزرة، مقابل عصا الحكومة التي تمثل الترهيب.

منذ البداية، عملت لندن على شق صفوف العمال بتجنيد عمال من المنطقة نفسها ومن مناطق أخرى، والدفع بهم نحو المناجم المغلقة بأجساد العمال المضربين، لكي يعملوا بالمناجم. كما أحضرت قوة حماية كبيرة من البوليس، أطلقوا عليها القوة الطائرة. كانوا يأتون بها من مختلف المناطق، وخاصة من قوة بوليس العاصمة.

كانت لندن مصممة على كسر شوكة اتحاد عمال المناجم، وعملت على تشجيع آخرين لتأسيس اتحاد موال، وبذلك شقت الصف العمالي الواحد إلى شقين، وأضعفته، عملا بمبدأ فرّق تسدْ.، ثم انتقلت إلى القضاء عليهم في هجمات بوليسية ضارية.

في ذلك الخضم قامت قيادة شرطة سكوتلنديارد بزرع فريق من الجواسيس بين العمال المضربين في بلدة شيروود. وكانت مهمتهم تزويد قيادة البوليس بتفاصيل ما يحدث وأسماء المشاركين. لدى انتهاء الإضرابات وتمكن حكومة السيدة ثاتشر من هزيمة المضربين، وقيامها بتنفيذ سياستها بإغلاق المناجم، وتحويل العمال على مساعدات الضمان الاجتماعي، كشف المسلسل أن بعض أولئك الجواسيس فضلوا العيش في تلك البلدة، وتزوجوا منها، وأنجبوا أطفالا.

المناورة البوليسية نفسها تكررت ضد النشطاء في الحملة المناوئة للسلاح النووي. وشهدت المحاكم البريطانية في السنوات الأخيرة قضايا عديدة من ضحايا وقعوا في فخ الارتباط بالجواسيس، وأقاموا معهم علاقات اجتماعية وجنسية، ورزقوا منه بأطفال.

المسلسل ركز على هذه المجموعة وكيفية تكوينها منذ البداية، والمهام المسندة إليها. أعضاء الفريق الجوسسي منحوا هوّيات جديدة، بأسماء جديدة، وشهادات ميلاد رسمية، معظمها تخص أطفالا ماتوا في الشهور الأولى، وصاروا يعرفون بها. كما منحوا أنفسهم أسماء حركية لشعراء رومانسيين بريطانيين.

ولعل أهم ما كشفه المسلسل والنقطة المحورية فيه هي أن الحكومة في لندن، بقيادة السيدة تاتشر، كانت تتهيأ لتنفيذ خطة اقتصادية تتمحور حول خلق اقتصاد السوق الحر، بمعنى أن قوة السوق هي من ينظم ويقود الاقتصاد، وليس الدولة.

واستدعى ذلك تهيئة الأرض بالقضاء على النقابات والاتحادات العمالية، وفتح الأبواب أمام المستثمرين من كل أنحاء العالم، وإلغاء النظم واللوائح القانونية الحامية للطبقة العمالية. وبدأت الحكومة في تنفيذ الخطة من خلال سعيها إلى إغلاق مناجم الفحم بحجة انعدام ربحيتها، وتكلفتها الباهظة على الخزينة العامة لقاء استمرارها.

ونجحت في جر الاتحاد العمالي إلى معركة استعدت لها، واختارت موقعها وتوقيتها وسلاحها، وانتقلت للهجوم بسرعة وبقوة. وفي النهاية، كانت الغلبة للحكومة ولاقتصاد السوق الحر. وتحول عمال المناجم إلى قوة عاملة رخيصة غير مدربة ومعدومة المهارات في سوق مفتوح تغوّل بسرعة عجيبة، ومعه تغيرت بريطانيا إلى ما هي عليه اليوم.