Atwasat

متاهة المصدر الرسمي والمصدر الوحيد للتشريع

صالح السنوسي الأحد 10 يوليو 2022, 03:15 مساء
صالح السنوسي

كشف السيد رئيس مجلس النواب في لقاء مع إحدى المحطات الفضائية عن الاتفاق الذي توصلت إليه لجان مجلسي النواب والدولة بمباركة منه ومن السيد خالد المشري رئيس مجلس الدولة بخصوص المواد الخلافية في مشروع الدستور، وبدا السيد عقيلة صالح مسرورا وهو يكشف عن تفاصيل التعديل الذي توصلوا إليه مع ممثلي التيار الإسلامي في مجلس الدولة حول المادة السادسة الشهيرة المتعلقة بمصدر التشريع، ولكن اتضح بعد ما قدمه السيد المستشار من شرح أن كل ما حدث ينطبق عليه المثل الليبي القائل "الحاج موسي هو موسي الحاج" وهذا ما استفزني كمواطن غيور يتطلع إلى الدستور كضامن لحقوقه وحرياته، كذلك أدهشني ما اعتبره السيد رئيس مجلس النواب اختراقا في جدار تصلب التيار الإسلامي حيال المادة السادسة التي تنص على أن الشريعة الإسلامية هي مصدر التشريع، وذلك باستبدالها بنص يكرس الشريعة كمصدر رسمي، ثم انطلق السيد عقيلة يبرر سبب التخلي عن النص الأول الموجود في مشروع الدستور واستبداله بالنص الجديد وضرب لنا مثلا تستوعبه عقولنا الصغيرة، وهو القانون المتعلق بممارسة الرياضة التي لم ترد فيها نصوص في الشريعة.

بدا السيد رئيس مجلس النواب في حديثه عن هذا المثل وكأنه قد اكتشف حججا أفحم بها ممثلي التيار الإسلامي لكي يتنازلوا عن تصلبهم ولعله نسي أنه طالما قبل بأن تكون الشريعة الإسلامية المصدر الرسمي فإن قوانين الرياضة أيضا أصبحت تقع تحت سطوة المصدر الرسمي وبإمكان المفتي والفقيه والمحتسب والناهي عن المنكر والآمر بالمعروف أوممثلو التيار الإسلامي في المحكمة الدستورية- إذا شاءوا- أن يدسوا أنوفهم في قضايا كثيرة متعلقة بقوانين الرياضة وليس أقلها الزى وملابس الرياضيين والرياضيات والاختلاط في المدرجات وسفر الرياضيات دون محرم إلى الخارج وغيرها من التفاصيل.

لقد توقفت عند هذا المثل لأنه هو الذي ضربه السيد المستشار ليبين لنا كيف خرج من حصار التيار الإسلامي ولنبين له نحن بدورنا أيضا أن التسليم بالمبدأ يعني التسليم ضمنا بكل ما يتعلق به من تفاصيل مهما كانت صغيرة وتافهة ولا تخطر على بال أحد، ولعل ما راعني في هذا المثل هو أنه يعطي الانطباع بأن السيد عقيلة لم يكن مهموما بالحقوق والحريات التي قد يطالها هذا النص بل معني فقط بسد الثغرات التي لم ترد بخصوصها نصوص دينية!.

طالما تم تثبيت النص الجديد باعتبار الشريعة هي المصدر الرسمي للتشريع، فإن كل مواد مشروع الدستور تظل تحت رحمة هذا المصدر الرسمي، بالتالي فكل تشريع أو قانون أو قرار أوتصرف من السلطة تستطيع هذه المادة أن تطيح برأسه ويستطيع أي محتسب إذا ماعن له ذلك، أن يخاصم أية فقرة في أي قانون بما في ذلك قوانين الرياضة وقوانين المرور، ولاسيما أنه مطمئن إلى أن هناك ممثلين عن التيار الإسلامي في المحكمة أو الدائرة الدستورية بصفتهم ممثلين للتيار الديني وليس بالضرورة بسبب كفاءتهم وملكتهم القانونية وهو نوع آخر قريب من المحاصصة الوظيفية التي وضع حجر أساسها مجلسا النواب والدولة بمباركة السيد رئيس مجلس النواب والسيد رئيس المجلس الأعلى وإن كان هذا الأخير لا تهمه التفاصيل بقدر ما يهمه تثبيت نص في الدستور يجعل الدولة والسلطة والمجتمع تحت سطوة المنظور الديني ولا يهمه بعد ذلك عدد السفراء والوزراء ومجلس الشيوخ وعدد المحافظات في الغرب والشرق والجنوب، فكل هؤلاء خدم يعملون تحت مظلة دولة دينية ليسوا هم حكامها الحقيقيين.

إن ما يهمني كمواطن ولعله مطلب الغالبية العظمي من الليبيين هو إرساء دعائم دولة مدنية وليس فقط نجاة قوانين الرياضة والمرور من حصار الدولة التيوقراطية، فمثل هذه القضايا بإمكان مادة "المصدر الرسمي" أن تتغاضي عنها وأيضا بإمكان المادة السادسة في نصها القديم أن تغض الطرف عنها إذا ما أراد المفتي والفقيه والمحتسب ذلك، لأن ما يستهدفه واضعوا هذه المادة ليست هذه القضايا الهامشية، بل حقوق وحريات المواطن والإنسان في القرن الثاني والعشرين، أي حرية التعبير وحرية الاعتقاد والاختيار والحق في الاختلاف والمساواة بين الموطنين بصرف النظر عن الجندر والمعتقد، فالمقصود هو وضع المجتمع والدولة والسلطة تحت طائلة التحريم والتحليل والتجويز، وبالتالي فإن مفهوم الخطأ والصواب والعقل وإرادة الجماعة تغدو كلها مفاهيم هامشية لا قيمة لها في منظور سيادة الدولة الدينية التي يكرسها هذا النص.

إذا حاولنا تلمس الفرق بين نص "الشريعة الإسلامية هي مصدر التشريع" ونص "الشريعة الإسلامية هي المصدر الرسمي" فسنجد أنها مجرد فبركة وتسويق منتج قديم في علبة جديدة، فالمحتوى في الحقيقة لم يتغير وقوة الإلزام القانوني لم تضعف في مواجهة التشريعات والأفعال والتصرفات البشرية، وكل ما حصل هو تزوير على صعيد اللغة دون المساس بالمعني وإذا عدنا إلى تخريجة "المصدر الرسمي" وبصرف النظر عن صحتها من الناحية الشكلية والموضوعية فإنها تعني أيضا أن هناك مصادر غير رسمية يجب النص عليها وذكرها بالاسم للرجوع إليها في حالة خلو المصدر الرسمي من المسألة المطروحة، هذا إلى جانب أن مصطلح المصدر الرسمي ليس رائجا في الأدبيات القانونية المتعلقة بالمصادر. فالمتعارف عليه هو مصطلح المصدر الأصلي والمصدر المساعد على غرار ما نصت عليه المادة الثامنة والثلاثون من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية، وهذا النص لا يهمنا من الناحية الإلزامية، ولكن أوردناه لتوضيح ما هو سائد في الأدبيات القانونية المتعلقة بموضوع المصادر، كذلك فأن هذه الملاحظة المتعلقة بالمصدر الرسمي لا تعني القبول بهذه التخريجة بل فقط للتدليل على أنها تخريجة لا تخلو من خطأ حتى من الناحية الشكلية إلى جانب خطورتها الموضوعية على الحقوق والحريات والدولة والمجتمع والفرد.

إذا كان هؤلاء يرفضون عودة دستور عام 1951 المعدل عام 1963 رغم أنه جرى العمل به طوال ثماني عشرة سنة وأسقطه انقلاب عسكري، فإنه – حسب هذا المنطق – يمكن تجاوز مشروع دستور لم يستفت عليه ولم يعمل به يوما واحدا وظل مجرد مجموعة من النصوص في أدراج مجلس النواب تثير الخلافات والصراعات وتهدد بمزيد من التشظي والفتنة بين مختلف فئات المجتمع الليبي، كما أصبح أداة صراع تستخدمه القوى السياسية الفاسدة التي استولت على المشهد السياسي منذ عقد من الزمن، وإذا كان هؤلاء لا يملكون خيارا آخر سوى الذهاب إلى التعديل، فإنه من الأولى إجراء تعديل مهما كان حجمه على الدستور الذي نال شرعية التطبيق قرابة العقدين من الزمن بدلا من إجراء تعديلات على مشروع لم ير النور وتثير نصوصه من أوجه الخلاف بين الليبيين أكثر من أوجه الاتفاق.

لعله من الأفضل لليبيين وهم يحاولون بدء مرحلة جديدة أن ينتجوا مؤسسات سياسية وتشريعية لتحل محل مؤسسات المرحلة السابقة ومشروعها الدستوري، فإن تمكنوا من تحقيق ذلك فإنهم يستطيعون أيضا إنتاج مشروع دستور جديد ابن المرحلة الجديدة بدلا من مشروع تمت كتابته وسط قعقعة السلاح وفقدان الثقة وفي معمعة خطابات التكفير والتحريض والكراهية والفتن.