Atwasat

رفيق.. إن حكى

سالم الكبتي الأربعاء 29 يونيو 2022, 01:24 مساء
سالم الكبتي

(يوم الخميس السادس من يوليو 1961 رحل شاعر الوطن أحمد رفيق)

(1)
رحلت عن الدنيا.عن الوطن. كان ذلك في يوليو. اليوم السادس منه. رحلت بعيدا عنه.. في أثينا بلاد الأغريق. انطفأ قلبي وعدت إلى الوطن جثمانا. وسدت بالقبر رقم 2676
في مقبرة سيدي اعبيد.. هناك في طرف بنغازي الشرقي عند حافة السباخ والديس والصبار والأشجار الكثيفة.
آثرت أن يكتب على شاهد القبر بيت من نظمي..
إذا المرء في دين وعرض ومبدأ........ تسامح أو حابى فليس بإنسان
وظل الكثيرون يمرون بالقبر لحظة تشييع الجنائز ويمضون فيما الأعوام تمر بتثاقل عجيب. ثم نبش قبري في إبريل 1986 مع قبور عديدة أخرى. وضعنا في حفرة كبيرة واحدة جمعتنا رجالا ونساء. كبارا وصغارا, عظام بالية. قيل عن الحفرة بأنها قبر جماعي.
لم يعد ثمة من يزورنا. لم يعد ثمة من يفكر فينا. طمست قبورنا وضاعت. وأنا لم يعد لي مكان أو قبر أو ضريح في وطني. أنا شاعر الوطن ليس ثمة قبر يحتويني أو يضمني في ترابه الواسع. فيا من على البعد نهواه ويهوانا.. لقد رحلت في الصيف ونبش قبري في الربيع. ولم يكن ثمة مطر لكي يغسل الخطايا. كان القذافي وتلاميذه يصفونني بأنني شاعر رجعي ومجرد مداح.. فماذا نفعل والحر والقذافي لا يطاقان في ليبيا!

(2)
في مقهى مصطفى العرودي.. أعني في ميدان البلدية كان الصحاب يتحلقون حولي. ونحكي ونلعب الزهر. ونتبادل الأحاديث. يمر بنا الجميع .يصافحون ويحيون ويبتسمون.
كانت بنغازي صغيرة وكبيرة في نفس الوقت بالمشاعر والأحاسيس.. وكل ليبيا أيضا. يجلس أحيانا معي طلبة الجامعة ويسألونني عن الشعر والغربة والمنفى وواقع الحال، وكذا بعض طلبة الكلية العسكرية في عطلتهم الأسبوعية مساء كل خميس.
أتناول القهوة. أدخن. يردد سامبو.. محمد معتوق شعري في جنبات المقهى وتعلو أبخرة القهوة والشاي ورائحتهما والسجائر وثمة من يلعب الورق. الحاج العرودي يهتم بزبائنه ويجاملهم. وأنا في الغالب أظل شاعر الوطن محل اهتمامهم. الكل يود الجلوس معي والساعة في برج البلدية تدق بمرور الوقت والساعات. الحادية عشرة. الواحدة ظهرا.. وهكذا تعلن عن الساعة بعد كل ساعة ويتحلق الصحاب خلال هذه الساعات بلا انقطاع: الحاج سليمان الصلابي ومصطفى بن عامر وعوض الغناي وعلي بالروين وعبد الكريم لياس والشريف الماقني وعلي الشعالية وعلي الزياني.. وغيرهم. ثم يمضون ويتفرقون في الظهيرة أو المساء. ويأتي آخرون. تعمر الجلسات بحكايا الوطن والشأن العام والنكات وأستطيع الهتاف بقوة:
خلقت حرا فما فوق البسيطة ... من أعنو له غير جبار السموات

(3)
وتردد إلى سمعي ما تردد في تلك الأيام البعيدة. وصل القول فقلت على الفور:
قيل الخفافيش قامت تناوئني ........ قلت الفراشة قد تدنو من النار
ولم أصبر كثيرا على كل التداعيات وصرخت بقوة في كل الوجوه التي تريد النيل مني أو الإساءة إلي:
ضرب المسامير داء من أصيب به ..... فليس يشفيه إلا ضرب مسمار
كيف أخشى هؤلاء؟ وأنا لم أخش بصاصة الطليان ترصدني. لم ترهبني الضبطية وهي تلاحق خطواتي غير المتعبة إلى بيت المحيشي حيث أقيم. بصاصة يجيدون الوشاية وأشياء مخجلة أخرى في كل العهود. إنهم ثابتون يتقنون أدوارهم، لكنهم يسقطون بعيدا في مزبلة التاريخ. وأنا أظل ألعنهم إلى يوم الدين. لا أخشى بصاصا أو قوادا أو ذيلا من الذيول لا يشفيه إلا ضرب مسمار.

(4)
هذا موسم الانتخابات. هذا موسم الاختيار للبرلمان.هذا موعد الوطنية والانتماء. من يخدم الوطن سوى أبنائه المخلصين. من يحس بمرارات وعذابات مواطنيه سوى الشريف الحر الذي اكتوى بالمظالم وتحسس تلك العذابات المكلومة في الصدور والقلوب. وأظل أهتف في الشارع الطويل والكثير يسمعني:
حكم ضميرك وأنت حر وانتخب .......... خير الرجال لمجلس النواب
لايمنعنك من أداء شهادة ............. حب القبيلة أو هوى الأحزاب
هل قلت للناس الذين يسمعون القبيلة والأحزاب. حبهما وهواهما والانصراف إليهما الذي يفسد كل شيء ويعطب العجلات في الدروب.. دون عشق الوطن المفدى.. هل قلت ذلك؟

(5)
.. وحركت كثيرا. لكن لم ينفع التحريك. طال الحلم. وطال الصبر وأمد الكلمات وطال أيضا شوقها إلى الإصلاح وخاطبت الرجل الملك:
أدرك بحكمتك الباقي من الرمق .......إن السفينة أشفت على الغرق
وفي البلاد قوانين معطلة ........ أحكامها. ونظام غير منطبق
وما القوانين والدستور إن بقيت ........ كما نراه سوى حبر على ورق
ومن بعيد من ملاحة البردي يلتقط ما قلت جعفر الحبوني وينظم:
قيادة السفينة يا ادريس أرعاها .......أصحى م الجماعة يخربوا مدعاها
يلتقي في الهدف العامي مع الفصيح. وحركت كثيرا ثم نالني صمت وقيل لي تكلم وقد كنت في كل الخطوب تقول. الصمت لم يعد يا سيد مجديا فظللت أهتف:
قالوا تكلم قلت لا . حتى أرى ... ما في القضية من طبيخ يطبخ
قلبي يحدثني بأن ممثلا ......... خلف الستائر للحقائق يمسخ
ماذا أقول وما تراني قائلا ........ أنا ساكت لكن قلبي يصرخ
أبكي على شعب يسير أمره ..... متزعمون وجاهلون وأفرخ

(6)

.. وصبرت على مضض مثل أيوب. الصبر والسكوت. التبدلات والتغيرات. والحكومات تتعاقب. والحال كما هو ما بين منصوب ومرفوع. والوطن يسهر جراء السلبيات والمشاكل ويختصم بسببها طوال النهار والليل. حكومة وراء حكومة. مجلس وراء مجلس. وجوه تعقبها وجوه. لكنها لم تتحد في وجه الفساد الذي بدأ يعم ويصم. في وجه من يريد ثقب السفينة وغرقها وسط الريح العقيم. قلت بصراحة لم تعجب البعض:
أولئك حكام البلاد وكلهم ......... كنوابها. أو كالشيوخ ذيول
فلا عضو في النواب إلا وعقله ........ به من نسيج العنكبوت سدول
شيوخ ونواب على الشعب عالة ........ وعبء من الصخر الأصم ثقيل
أناخت على حكم البلاد عصابة ....... تسير على أهوائها وتصول
فلا شأن للدستور فهو معطل ....... ولا حكم للقانون فهو فضول
وباسميهما تجري الأمور ومالها .... إلى الحق أو إحدى الحقوق وصول

(7)
وكنت ذات يوم بعيد على رصيف الميناء. البحر والسفينة والشمس قاربت على الغروب وفي الخلف المدينة تلوح مثل أطلال والصحاب يودعونني بتأثر بالغ. قال لي الطليان: لاتبق في الوطن. أخرجوني إلى المنفى. نجح البصاصة في الكيد لي. كان ذلك بعد نظمي لقصيدة غيث الصغير وزيارتي له في معتقل المقرون. لم يعجب ما قلت البصاصة ومن يرفعون إليهم في السلطة التقارير والوشايات. خرجت. غادرت السفينة المرسى والمدينة تلوح مثل أطلال حرب. هتفت:
تبقى على خير ياوطنا بالسلامة ...... ورانا ندامه... وياعون من فيك ياوطن كمل أيامه.
لكن البعض أو الكثير يرى أن السعادة والبهجة مع من يقضي أيامه خارج الوطن.. بعيدا عنك يا أيها الوطن المفدى. الحزن أيها الوطن يقود إلى الكفر أحيانا بالخير وبالانتماء.
الحزن يقتل القلب عندما يتضافر مع التضحية بالوطن أو البعد عنه!

(8)
.. ثم رثاني رشاد الهوني فيمن رثى. وصل ذلك إلى سمعي في ذلك القبر وسط السباخ..
قال رشاد:
حزنت بلادي..
بهم وإرهاق وضيق
صاح من أعماقنا.. صوت ينادينا
أفيقوا..
مات شاعركم رفيق
فانتفضنا.. راعنا أن تأخذ الأقدار
ربان الطريق!!