Atwasat

أنامل مباركة لمشرط وقلم

محمد عقيلة العمامي الإثنين 27 يونيو 2022, 12:24 مساء
محمد عقيلة العمامي

هناك قوانين وضعية عجيبة، وطريفة، وقد تبدو أحيانا أنها غبية، ولكن لا بُد وأن لها أسبابها. منها ذلك الذي يقرره القانون الفرنسي، وينص ببساطة على أن الذين يولدون فوق الأرض الفرنسية يمكن تجنيدهم في قوات فرنسا المسلحة، ولا بُد أن ذلك يمنحهم حق الجنسية الفرنسية. بعض الناس، إن لم نقل قناعات بعض الأمم، تبدو أيضا عجيبة.

فمثلا والد الروائي البريطاني الشهير سومرست موم، كان يعمل بالسفارة البريطانية في باريس، ولذلك بعدما جاء الطلق لزوجته أخذها لتضع مولودها بالسفارة، باعتبار أنها أرض بريطانية، وبالتالي لا يسري قانون التجنيد في فرنسا على ابنه. ولكن هذا الطفل تعلم الفرنسية سريعا بسبب دراسته وطفولته التي قضاها في باريس. ولكن ما إن وصل بريطانيا والتحق بمدرسة بريطانية حتى عانى من التلعثم بسبب سطوة لغته الفرنسية، ولذلك ظل (وكواكا) ودرس الطب في ألمانيا، وامتهنه فترة.

وفيما كان طبيبا شابا، وبعدما فحص أستاذ جامعي، وشرع في توصيف حالة هذا الأستاذ تلعثم، بدرجة توقف فيها لسانه، فسحب ورقة وكتب تشخيصه لحالة هذا الأستاذ وسبل علاجها وسلمها له. قرأ الأستاذ المريض ورقة سومرست موم، وابتسم وقال له: «أنت لست بطبيب يا سيد موم، وإنما أنت أديب. أنصحك بالكتابة.. إنها صنعتك!» قال موم في مذكراته، إنه عاد تلك الليلة وكتب أول قصصه، ومنها تغير مجرى حياته!

ومن وقت أن انتهيت مما قرأته عن هذا الكاتب المشهور، الذي لم أعرف من قبل أنه طبيب، حتى تذكرت في الحال، صديقي الدكتور محمد محمد المفتي الذي لم يتغير، فلقد استمر طبيبا جراحا ناجحا، منذ أن تخرج في مدرسة طب ليدز، ببريطانيا سنة 1968، ومارس مهنته هناك، مستمرا في أبحاث جراحة القلب، وعاد إلى ليبيا، قبيل قيام ثورة سبتمبر.

مواصلا عمله كطبيب، متابعا في الوقت نفسه مسؤولياته كمثقف، يهوى الأدب والثقافة وشرع في الكتابة العلمية، وأخذته إلى الكتابة التوثيقية الاجتماعية، متابعا لمسيرة ليبيا الثقافية، ولكن مع مغبة ثورة سبتمبر الثقافية التي أعلنها القذافي يوم 15/ 4/ 1973، طرق بابه فجر يوم من أيام أواخر ذلك الشهر مستأذنينه لدقائق عاد من بعدها بعد 11عاما لأنه من المثقفين المعارضين لفكر القذافي، وهو الذي استُدعي مبكرا وكلف بإدارة المرفق الصحي في الجبل الأخضر بليبيا، حيث مدينة درنة مسقط رأسه!.

ومع ذلك ومن بعد خروجه من السجن، لم يغب عن المشهد الثقافي ولم يعد إلى بريطانيا، على الرغم من أنه إمكانية علمية مرحب بها، ناهيك على أن حقه في البقاء هناك لم يكن يحتاج إلى ورقة يقدمها للسفارة البريطانية، في ليبيا.

الدكتور محمد المفتي يتنفس انتماء وعشقا لليبيا، مأخوذ بالكتابة التوثيقية التنويرية الناقدة، فمن يقرأ على سبيل المثال كتابه، الذي أعتقد أنه باكورة إنتاجه الأدبي

(توطين العلم أولا) يحس وكأنه واقف بشموخ، كتمثال القامة الوطنية المصرية مصطفى كامل مشيرا بسبابته، نحو طريق قيام الدولة، أية دولة، وهو طريق العلم! هذا الكتاب الذي صدر العام 2004، والذي سبق وأن كتبت ناقلا رأيا يقول: «ينبغي أن يكون من مقررات المنهج الدراسي للمدارس الثانوية».. لبساطته في تقديم المعلومة القيمة المفيدة، وبأسلوب بسيط وسلس.

والمتابع لإصداراته الأدبية التنويرية، منها على سبيل المثال: (هدرزه في بنغازي) و (الأيام الطرابلسية) و (على الكورنيش) و (سهاري درنة)، سوف ينتبه لأهميتها، وتأكيدها لما أورده في لقاء أجرته معه الصحفية البارزة نهلة العربي لـ «بوابة الوسط» بتاريخ 14/ 5/ 215، ذكر فيه رده على سؤال السفير الألماني في ليبيا عن السبب الذي يبقي على الليبيين متماسكين؟ وهم المبعثرون في صحراء أو شبه الصحراء الشاسعة، قال فيه: «للبادية والصحراء آلياتها في حفظ السلم الاجتماعي. ليبيا ذات تجانس غير متوقع، نتيجة الهجرات الناتجة عن دورات الجفاف، ونتيجة انتشار الليبيين من ورفله وزليتن وجبل نفوســه..

وخاصة تجار مصراتة.. وقبل سنين كتبت دراسة بعنوان «مصراتة مسداة النسيج الليبي».. عناصر الهوية الليبية عديدة: اللهجة، والشعر الشعبي الذي أسسه سيدي قنانه الفزاني، والجرد والطـعام (البازين والزميتـة).. كلها سمات تميز الليبي عن المصري والتونسي وبقية جيرانه. لن تختفي الهوية الليبية إلا في حالة فيضان ديموغرافي، يغمر الفضاء الليبي، وهو أمر ممكن على المدى البعيد لكن غير محتمل الآن».

ومما لا شك فيه أن تجربة سجنه كانت مؤلمة، ولكنه مثلما فسرها، أنه على الرغم من كونها كذلك، وخسائرها بالغة؛ فإنه استثمرها في التعلم والقراءة والكتابة، وأنه أفرغ ذهنه من الأحقاد والضغينة، فاكتسب راحة وسكينة. هي من أبرز ما ينتبه إليه من يقترب منه ويرافقه، وهذا ما لمسته شخصيا.

أخبرني أحد رفاقه في محنة السجن، أن حوارا عاصفا تفاقم ذات يوم في السجن مع أحد رفاقه، وكان من أولئك المتطرفين، وكان قد فقد أعصابه وتطاول درجة العيب، فأخبرني أن الدكتور محمد، ابتسم وقام قائلا: «سلاما!» وغادر، ولكنني استغربت من هوجة محاورة المتطرف، ولم أفهمها إلاّ بعد أن فسرها لي أحد الزملاء، فما كنت أعرف الآية التي تقول: (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا) عندها انتبهت إلى أن الدكتور محمد المفتي لم يكن ملحدا مثلما اتهمه من جادله. بل موسوعة علمية أدبية، سوف يخلده تاريخنا، وسوف يقول جيل يوما ما هذا من كان وراء تطوير مناهج ليبيا التعليمية.