Atwasat

زيارة توينبي

أحمد الفيتوري الثلاثاء 14 يونيو 2022, 10:24 صباحا
أحمد الفيتوري

• توينبي خطر على البال
والرصاص يغرد في الشوارع، وكنت أغرد في التويتر، ما أدس فيه رأسي، لم أعتد ما اعتاد المعتادون عليه، المعتدون على الناس والشوارع وكل البلاد. ولن أعتاد على كل مسوغاتهم وتخرصاتهم، ولكن أيضا، لم أعد أوليهم اهتماما، هم ومن معهم، ومن يختلفون معه، ولا من يشجب ولا القلق، ولا من أمثالهم من نساء ورجال، من منظمات إقليمية ودولية، أو غير ذلك.

لن أعتاد ذلك، وأيضا لن أقلق، لكن وأنا أغرد على التويتر، وقد حاصرتني الأخبار كعادتها: أن الرصاص يغرد في شوارع طرابلس، تذكرت المؤرخ أرنولد توينبي، وما كتب عن ليبيا، وما كتبت عنه.

فعزمت على أن أرجع إليه، وقد مر في الذاكرة شيء مما قال، وإن مشتتا وفي عتمة غابر الأيام. ولما راجعت ما كتب، وجدت جملة ثاقبة: "لقد حول ضخ النفط ليبيا فجأة إلى واحدة من دول العالم الغنية.

صحيح أن الثروة تتيح فرصًا جديدة عظيمة، ولكن، حين تحُل الثروة في إحدى البلدان فجأة، يمكن أيضا أن يكون وضعها الجديد خطِرا".

كان كتب ذلك بعد زيارته ليبيا، التي ترجم ونشر فيها ما كتب سنة 1969م، ومنذها أخذ يتمظهر الخطر، ما أشار إليه توينبي، أي خلال النصف قرن بعد اكتشاف النفط، تحولت ليبيا إلى وضعها الجديد الخطر. ليبيا التي أبدى توينبي أسفه، على ما عاشته تحت الحرب الإيطالية واستعمارها، وما تلقته من ضربات من أثر الحرب الضروس، الأوربية الكبرى الثانية، على أراضيها، ليبيا تلك أثناء زيارته لها سنة 1964م، وجد أنها في وضعها الجديد الخطر.

وإذا كانت الجغرافيا قد جعلت منها ساحة حروب، فإن الثروة جعلت منها ساحة خطر. ولم يشر إلى أن هذا قدرها، لكن توقع أن تعاود الدول، التي حولتها إلى ساحة حرب، الكرّ، من أجل ثروة تعاضدها الجغرافيا. واليوم تتحدث الأخبار، عن أن الجغرافيا والثروة اتحدا كمصدر خطر، خاصة وأن أوروبا تعود لعادتها كقارة حرب.

• بورتريه لتوينبي
قلبت الصفحة، شاهدت من بعيد، المؤرخ الانجليزي الشهير أرنولد توينبي، خارجا من مدرج أحمد رفيق المهدوي. كأنه مل الجلسات المطولة، لمؤتمر تاريخ ليبيا القديم؛ خاصة بعد أن ألقى محاضرته وارتاح.

انحرف باتجاه البحر، عند الكورنيش تنسم الهواء الرطب، فارتخت مشيته، جال في المكان، وكأنه يصيخ السمع لطائرات بلاده، وهي تدك ميناء المدينة. تفطن للبحر وأخذ يرسم بورتريه، مدينة ناهضة عن كثب، من تحت ركام غزاة تبادلوها، في مطاحنات ومشاحنات وغارات لا تعد.

هذا جعله يقول لنفسه: ما أقل الحكمة التي تسير هذا العالم. شرع يخط لوحته التي سيهديها لزوجته من هنا: في بنغازي يغدو منظر البحر مبهجا، فالبحر المتوسط المشهور بزرقة مياهه، ليس أشد منه زرقة في غير هذا المكان.

لم ينتبه لبدوي مر عليه في مجلسه صائحا: السلام عليكم، فاسترسل نسيج مخياله، وإن لم يقطع البدوي المار من جانبه تأملاته، فإن الحشد الذي أقبل عليه استطاع ذلك، فجمع من أساتذة الجامعة والمسؤولين انطلق يبحث عنه، حتى وجده غارقا في بنغازي، حيث يغدو منظر البحر مبهجا...

• زيارة توينبي
"زيارتي إلى ليبيا عام 1964، ضيفا على الحكومة والجامعة الليبية، كانت حدثًا لا أنساه طوال حياتي. لقد سافرت حتى الآن، ولاسيما منذ تقاعدي من المعهد الملكي للشؤون الدولية عام 1965، على نحو واسع. وحين أزور بلدا ما، أسعى ما وسعني ذلك، إلى مشاهدة أشياء ثلاثةٍ على وجه الخصوص، أولا: أهتم برؤية أهل البلد، أي الجيل الحيّ وحالته الراهنة وآفاق مستقبله.

وفي المقام الثاني: تاريخ البلد، أي تجربة الأجيال الغابرة ممن سكنوها، والآثار الباقية من هذه التجارب، خاصة الفن القديم والمعمار. أما الأمر الثالث، الذي يهمني فهو المشهد الطبيعي، على أصله كما صنعته الطبيعة، أو كما طوعه الإنسان لأغراضه.

وفي ليبيا عام 1964، تعلمت أشياء كثيرة، في جميع مجالات التحقيق الثلاثة هذه.

وقد تزامن موعد زيارتي، مع لحظة مهمة من تاريخ ليبيا الطويل، فقبل اكتشاف ثروة ليبيا الجوفية المتمثلة في النفط، كان النشاط الاقتصادي الأساسي في البلاد رعويًا، وفي ملاحم هوميروس الإغريقية، التي صيغت نهائيا، في وقت مبكر من القرن الثامن قبل الميلاد - على الأقل - كانت ليبيا مشهورة بجودة ماشيتها.

إن ناتج الاقتصاد الرعوي له قيمة، ولكن في وقتنا الحاضر، تتفوق الثروة المعدنية، على الثروة الرعوية تفوقا كبيرا.

لقد حول ضخ النفط ليبيا فجأة، إلى واحدة من دول العالم الغنية. صحيح أن الثروة تتيح فرصًا جديدة عظيمة، ولكن، حين تحُل الثروة في إحدى البلدان فجأة، يمكن أيضا أن يكون وضعها الجديد خطِرا.".

أرنولد توينبي - ترجمة: بدر الدين الورفلي - ونشرت المقالة في العدد الثالث من مجلة كلية الآداب بالجامعة الليبية 1969م.