Atwasat

عبقرية المكان

رافد علي الخميس 09 يونيو 2022, 10:50 صباحا
رافد علي

فى المكان نجد السطح والعمق والامتداد، ولا أحداث بدون مكان وزمان، بل إنه لا معنى لمرور الزمن بدون المكان، فمن خلال مرور الزمن يكون التاريخ، والمكان قد يكون أملاً، وقد يكون ألماً وفق ما نشاهده ونعيشه ونتمناه، فللمكان علاقات وعلامات وتحديات. والمكان فى الفيزياء، وفق موسوعة بريتانيكا للعلوم. هو الفسحة أو الفضاء المُنْفسح واللا محدود والمتميز بأبعاد ثلاثة تتخذ فيها الأجسام والوقائع وضعها واتجاهاتها تناسبا وتوازياً.

والمكان فى الفن حالة استنطاق لروح البقعة، محل العمل الفني، بغرض الوصول للجوهر الخفي بقصد ملامسة ما يخفى بشكلٍ عقلي يفوق الحس بالماثل، بحيث يصبح المكان محسوساً بحيويته "روحه"، ومن هنا جاء مصطلح "شخصية المكان"، لأنه يعكس معالمه الخاصة به، التي تميزه عن سواه، كما إن للمكان قدسيته، كما في الأماكن المقدسة عند جميع الأديان، وللمكان أيضاً حرمته كالمنزل ومرافق التعليم والعلم، بل لم يتوان البعض عن منح المكان صفة "العبقرية" ، كالفرنسي ميشيل بوتور الذي استخدم المصطلح لإبراز أهمية المكان في عالم الرواية والقصة، لأنه قد يكون عنصر بطولة فيهما بسبب روحه وحيويته وشخصيته، ولارتباط المكان المصيري بعامل الزمن، تنحبكُ فيه الأحداث والمصائر كما يوضح حسن مصطفى طه فى جماليات المكان*. فى علم الجغرافيا، كان المرحوم جمال حمدان قد قدم مشروعه الفكري فى ثمانينيات القرن الماضي موسوماً بـ "شخصية مصر: دراسة فى عبقرية المكان"، التى بين فيها قدر مصر الاستراتيجي والجغرافي من خلال أهمية مكانها وموقعها، وبالتالي انعكاسات ذلك على شعبها وانغراسها "كمكان" في وجدان ناسها ووعيهم. نقول هذا بغض النظر عن نزعة المؤلف حمدان القومية الناصرية كما يرى بعض الدارسين لمشروعه الفكرى، كدراسة الدكتور حاتم عبد المنعم بجامعة عين شمس منذ سنوات مضت.**

ليبياً، لازالت عبقرية مكاننا ليست محل اهتمام حقيقي بعد، كل ما يقال عن مكاننا لا يكاد يكون حالة تكرار بسيط ومبسط في وعينا، ما لم نقل إنه اجترار متجدد في بكائياتنا على وطننا الضائع ضمن مآسينا الراهنة، فعبقرية المكان توأم عبقرية أخرى ليس من السهل إغفالها، وهي عبقرية التاريخ الذي نصنعه ونراكمه، لأن المكان وحده كهامش مهمل، رغم "عبقرية موقعه"، يظل فريسة يتناوب عليها الطامعون. ثمة حاجة لأهل يصونون روحه، ويحمون شخصيته، ويراعون قدسيته وحرمته، وهذا ما لا أجده في أجندات الساسة المتكالبين على السلطة، وألمسه قي غياب مشروع وطني حر ومستقر بالبلاد- رغم وجود النُخب والأحزاب والأعيان والنشطاء وغيرهم - يزرع مكاننا في وجداننا بطريقة أو بأخرى تحوي استفاقة وتجديدا وعمقا لروح باهتة ومشوشة، وربما ضائعة.

لازلنا في ليبيانا التعيسة بنا دون المستوى المعرفي لمكاننا وتاريخنا، مما يزيد من فاجعة تشظينا الاجتماعي لأننا متمسكون بتاريخنا الجهوي الضيق على حساب صالح الوطن، لأنه تاريخ صراعات وغلبة وتباهٍ وتشفٍ، وذلك ضمن المطروح في الخطاب العام بشعبويته المربكة اليوم. عبقرية مكاننا بكل ملامحه وثرواته وتضاريسه واستراتيجياته ليست مدرجة بعد في إدراكنا لوطننا، بدليل الاصطفاف السياسي الجهوي أو الممنهج كيفاً تارة، وميولاً بنزعاته المتنوعة تارة أخرى، وهذا حتماً يعزز إشكالية إدراكنا لحالنا كليبيين، لأن الإدراك حالة فهم للواقع الماثل، وللماضي المنصرم، وكذلك حالة استيعاب لملامح المشرف، وهذا يجعل من علاقاتنا التفاعلية مع مكاننا "وطنا"، بما يشمله من رموز وقيم وتاريخ وسرديات، تبدو خجولة بدواخلنا، وهو ما يفسر عندي ندرة وجود وطن في أعماق وجداننا، رأس امر الغيرة الوطنية كمؤشر للوعي، وللإدراك بالمكان واهميته كوطن، فى ظل الانهيار العام والفشل التام، وبالتالي التلاشي المسيس بسبب تداعيات ورقة التقسيم في ساحة أرباب المشهد المهزوز عموماً والمضطرب باستمرار. فكل هذه باتت قلاقل معاشة، وأضحت مألوفة رغم بؤسها وبأسها، إلا أنها، برأيي المتواضع، لم تشكل بعد إرادة تتجاوز التململ من كل العبث الراهن باسمنا وبوطننا. فالمقهى عند نجيب محفوظ، حسب صاحب جماليات المكان، المذكور أعلاه، حالة تجسيد لحقيقة المجتمع بأكمله، ويبدو ذلك جلياً من خلال التسلية المنتشرة في مقاهيه كالورق والدومينو وغيرها، فهذه الألعاب لا تتسم بأي نوع من التفكير والتدبير أو الفن، إنها تقوم على فكرة الحظ والمصادفة، فاللاعب ينتظر ما يأتيه به الزهر، إنه تجسيد لحالة انتظار لشيء لا يصنعه، ولا يديره ولا ينسقه. باختصار هي المفهوم القدري للوجود الذي غرسه بنو أمية مجرداً من فكرة الوعي بالتسبيب للأمور، التي لازالت راسخة فى تلابيب ذهنيتنا.

إننا بحاجة ماسة لإدراك مدى حرج وخطورة المرحلة التي نعيشها كأجيال معاصرة لأزمة بلادنا بنا، وبغيابنا، وبفداحة خسائرنا في الدوامة التي نسكنها اعتباطاً، فعبقرية مكاننا حتى تكون نعمة وفلاحا وجب أن يكون وعياً وعملاً ودفاعاً بلا هوادة.

هوامش.
*حسن يوسف مصطفى. جماليات المكان: المقهى عند نجيب محفوظ. دار بورصة الكتب. القاهرة. ط1. 2013
** د. حاتم عبد المنعم أحمد. شخصية مصر... في عيون جمال حمدان. دراسة نشرت على حلقات ببوابة الأهرام المصرية، اكتوبر 2017.