Atwasat

عطر بنية بوها

محمد عقيلة العمامي الإثنين 16 مايو 2022, 11:30 صباحا
محمد عقيلة العمامي

سنة 1770 أصدر مجلس العموم البريطاني قانونا يقول: «إن لجوء المرأة إلى أساليب إغراء الرجل، باستخدام العطر، ليكون زوجا لها يضعها تحت طائلة القانون، الذي يعاقب كل من يلجأ للسحر والشعوذة، ويعتبر الزواج باطلا من أساسه!»، والقانون ما زال موجودا في سجلات البرلمان البريطاني.

وتذكرت على الفور رواية «العطر» للكاتب الألماني باتريك زوسكينك، التي صدرت سنة 1985 الذي جعل شغف بطل الرواية بالعطور مجرد قاتل! وذات يوم أخبرني صديق، مثقف قرأ هذه الرواية، أن زوجته طلبت منه عطرا حددته بالاسم، وكان غاليا جدا، فعقب ساخرا: «أعتقد أنني سأكون بطلا لرواية زوسكينك التالية !».

ويندر ألا يقابل المرء امرأة ليست شغوفة بالعطر، من بعد «الذهب» مباشرة! قد يكون «الدولار» أيضا ضمن الشغف، فعلى الرغم من كونه مجرد «كواغط انعنهن ماجن» إلا أن شغف الرجال به أكثر، أعني بعض الرجال، وليس جميعهم، أعترف أنني ضمن هذا البعض!

منذ أيام تسلط علي حنين جارف لشقيقتي، حبيبة طفولتي «اللدودة»، التي لم أسبقها إلا بثلاثة أعوام فقط، ولكن عداد عمرها توقف عند الرقم «55» منذ قرابة 15 سنة مضت! كنت قد غبت عنها زمنا، ولذلك وددت أن أنتقي لها هدية، وحِرتُ، فأنا أعرف أن الذهب يليق بها، ولكنه لا يليق بي! ولكنني انتبهت إلى أنها رومانسية جدا، ولا أذكر أنها ممن يتباهين بهذا المعدن العجيب، ولذلك ما إن قرأت معلومة العطر هذه حتى رأيت أنها ستفرح به كثيرا.

الآن أصبحت تجارة تصنيع العطور رائجة، لأنها لم تعد تقتصر على «كريستيان ديور» و«لنفين» وطيبة الذكر «نينا ريتشي» التي كادت في مطلع السبعينيات أن تصبح من اشتراطات المهر مع الذهب، وبدلة وعربية صغيرة وأخرى كبيرة، وكان موضوع اشتراطات المهر يثير شجن ذكريات والدتي، يرحمها الله، كثيرا، فلقد كانت كثيرا ما تمط شفتيها، عند الحديث عن الأعراس، وتقول بحسرة: «كانت رقعة محمد دقيق» من اشتراطات المهر. ومحمد دقيق هذا هو والدها وكان إسكافيا مشهورا بميدان الحدادة بنغازي، ولما كبرت وأسستُ محلا أسميته «21» للأحذية ظلت تردد لصديقاتها: «طالع لجده محمد دقيق!».

تجارة تصنيع العطور وتسويقه أصبحت رائجة تماما في معظم العواصم العربية، خصوصا في القاهرة، ومؤخرا ارتبطت بصداقة شخصية مع مثقفة مصرية، ابنها امتهن تصنيع العطور، وكثيرا ما نلتقي في محله، فرأيت أن أطلب منه عطرا مخصوصا لها، وحكيت له عنها، فاقترح أن يعد لي ثلاث زجاجات بروائح مختلفة تنتقي منهن ما يعجبها، وتهدي الباقيتين لمن تريد. ولقد فرحت كثيرا بالهدية وظلت طوال تلك الليلة تشتم بالتناوب الزجاجات الثلاث، وأعتقد أنها ما زالت لم تستقر على أي منها حتى الآن!
والحقيقة ما حدث لها شيء طبيعي للغاية: «فلقد أثبت العلم أن العطر ينطلق مباشرة إلى مراكز التعقل في الإنسان ويهيجها، ويؤثر مباشرة، في الشعور وضربات القلب فتنطلق الهرمونات في جسم الإنسان».

ولعله من المفيد أن نعلم أنه، طبقا لإحصائية صدرت منذ عشر سنوات مضت «إن نساء العالم يستهلكن ما يزيد على 20 مليون لتر من العطور لخدمة أغراضهن..». والعجيب أن الرجال عندما يتجولون في أي سوق من أسواق مطارات العالم، يتجهون مباشرة نحو أرفف العطور لشراء عطور غالية لنسائهم، ولجهلي، أو لغبائي، كثيرا ما فكرت أن الأسلم أن يبتاع الذكر عطرا له لأن المستفيد من الاستمتاع برائحته هي رفيقته، ولم يخطر ببالي أن رفيقته لديها رأي آخر أشمل بكثير!

والمرأة تعي جيدا أهمية العطر لها، فما زلت أذكر جيدا شقيقة جدتي «عيشة» التي عاشت معنا وكان البيت كله يخشاها، ولكنني كنت الأقرب إليها. كان عمرها في ذلك اليوم، حوالي ثمانين عاما، وكان زوجها واسمه «أمزرع» قد نزح بها من قرية قمينس في ذلك الوقت، تاركا حرث القمح والشعير وتربية بضعة رؤوس من الأغنام، «يحدر» بها الأيام التي تسبق عيد الأضحى فيبيعها ويعيش بثمنها طوال العام، غير أنه قرر النزوح إلى بنغازي، وافتتح محلا صغيرا في شارعنا، وفرحت جدتي فلقد أصبحت بالقرب من شقيقتها، ولكن لم يطل الأمر حتى تزوج من امرأة وحيدة تعرف من سكان الشارع المجاور تعرف عليها، وعبثا حاول أن يعيد جدتي إلى بيته، ولكنها أصرت ألا تعود إليه. ولأنه يعرف أنني أقرب إليها ممن في البيت، عاملني كأنني رجل كبير، وأن أتدخل لكي أعيدها إلى عصمته، وبالفعل استفردت بها، أخبرتها عن رغبته ونيته الصادقة، حتى إنه سوف يطلق «ضرتها». ولقد أنصتت لما قلته لها، وفي النهاية قالت لي: «وراسك يا «حميدا» ما عاد يشملي «عقوش»!" وكانت تقصد «عقوص» ولكن سقوط صفوف أسنانها الأمامية حال دون نطق حرف «الصاد». رحم الله جدتي عيشة، التي إلى أن رحلت كانت مواظبة على غمر عقوصها، أعني جدائل شعرها الذي صار أحمر بسبب الحناء، بـ «المرون» وهو لمن لا يعرف حناء مغمورة بزيوت عطرية نفاذة، كانت تباع تحت أسوار الفندق البلدي وكانت تسمى «بارزيتي»!

إن السر في حرص المرأة على العطر، هو سحر الحياة وبهجتها، وأي بهجة لحياة من دون عطر امرأة باذخة.