Atwasat

جنون الهوية!

أحمد الفيتوري الثلاثاء 10 مايو 2022, 11:57 صباحا
أحمد الفيتوري

إن الهوية ليست ثابتة، بل هي تتحول بمرور الوقت، وتحدث في السلوك البشري تغييرات عميقة، وان وجدت، في كل الأوقات، أرضية معينة بين العناصر المكونة لهوية كل إنسان.
• امين معلوف
1-
الفهد حين يريد أن يرسم حدود المكان يبول عليه، يضع سيمياءه، وبالتالي هوية المكان الذي يستحوذ عليه، بهذا يعلن الحرب، على كل من يجتاز الحدود. لكن ذا التحديد لا يُنتح هوية للفهد، الذي يقاتل من أجل حاجته، فالحفاظ على نفسه، إذ الفهد فهد، بغض النظر عن المكان والزمان. وفي البشر من هويته ثابته ثبوت الحجر، يصبغها مكان معين وزمان معين، أو هكذا يبدو له، لأن الحقيقة أن الإنسان متغير كالصبح والمساء، ولهذا يتلون مع المكان والزمان، بحكم الضرورة والإرادة. هذا التلون كما يشير له أمين معلوف، يعني أنه من لزوم ما يلزم، لكي يكون الإنسان إنسانا، فالإنسانية من صنع البشر، وليست هوية معطاة كما هوية الفهد.

أما جنون الهوية الراسخة والمطلقة، فقد رافق مشروع الدولة الحديثة، منذ نشأتها في نهاية القرن الثامن عشر، خاصة مع الثورة الفرنسية 1789م، حيث برزت الدولة القومية في أوروبا، كوريث للامبراطوريات ذات الهوية الدينية. لكن تفاقم هذا الجنون في القرن العشرين، غداة الحرب الأوربية الكبرى الأولى، عندئذ بات الذوذ عن حياض الديكتاتوريات الأوربية ذودا عن الهوية القومية، فكانت الفاشية والنازية والستالينية والرايات السود الاسبانية أيقونات ذاك الجنون. والذود لا يكون حقا إلا بالتوسع ما وسيلته الحرب، لقد أمست القومية دين الأمبراطوريات الحديثة، ولهذا مثلا انقلب ستالين من البعد الأممي إلى القومية.

السمة الرئيسة للهوية في الدولة القومية اللغة، وبالتالي فإن حدود هذه الدولة حيث تكون لغتها، لكن هذه الحدود، تتسع باتساع الركن الثاني للدولة القومية، ما هو أمنها. عادة ما يترادف جنون الهوية بجنون الأمن، وعلى هذين المرتكزين ارتكز كل نظام ديكتاتوري، فاللغة مقدسة كما أمن الدولة، وكل تهديد يمسهما تهديد للهوية، وذا التهديد ملازم لهذه الدولة، التي وجودها يتحقق بالحرب أو الاستعداد لها، لأنها كيان مهدد بالضرورة.
ولقد نشرت أوروبا، القارة مركز العالم، مفهوم الدولة الحديثة/ الدولة القومية، في ربوع الدنيا خاصة مع توسعها الاستعماري، الذي عمل على فرض هويته حيثما حلّ، إلى درجة الجنون. ومن هذا فإننا يمكن أن نرصد هذا الجنون، وقد انتشر في العالم، مع اختلافات وتباينات تستوجبها ظروف موضوعية.
2-
لما قام الانقلاب العسكري في ليبيا ، بقيادة الملازم معمر القذافي، في أول سبتمبر 1969م، كنت في الشهادة الإعدادية، وقد عشت قبلها في كنف النظام الملكي، إلى حد بعيد في هدوء ورتابة، أما مع الانقلاب، وقد كنت في عزّ مراهقتي، فإني وجدت وكأن الانقلاب، كما هوية لتلك المراهقة.

لقد جعل زعيم الانقلاب البلاد في حالة زوبعة وتقلب، حتى بدا أن ليس ثمة بلادٌ بالمرة، فمشاريع للوحدة مع بلدان أخرى انهالت عليها. وأصبح الملازم الذي منح نفسه رتبة عقيد، العقيد معمر القذافي أمين القومية العربية، ولذا لزم عليَّ أن أملأ خانة الهوية، في أية أوراق رسمية، بالتالي: ع ل، أي عربي ليبي، وإن لم أفعل يشطب ما كتبت، أو لا تقبل الأوراق. فتحولت منذ مراهقتي إلى كائن، يتبع زعيما مصابا بجنون هوية غير متحققة، يطاردها في خطب نارية، وفي مشاريع سياسية لإقامة دولة الوحدة المبتغاة. وما تحقق لزعيم في زوبعة الهوية المطاردة هذه، سيطرة على زمام سلطة، تصدر مشاكلها خارج الحدود، في مشاريع لدولة القومية العربية، التي أمينها العقيد معمر القذافي.