Atwasat

أحلام خارج التغطية

سالم العوكلي الثلاثاء 10 مايو 2022, 11:55 صباحا
سالم العوكلي

لا أصعب أن تكون العاصمة التي تزدهر فيها الثقافة والفن بعيدة عنك بمسافة ترهق كل وسائل المواصلات، خصوصا عاصمة مثل طرابلس طالما حاولت أن تلعب دورها الصعب كحاضنة لروح الوطن الكثيفة، ولإدارة هذه القارة المسماة ليبيا. ولأن الثقافة، كما يقول ديورانت، قد تولد في كوخ الفلاح لكنها لا تزدهر إلا في المدينة، شددت الرحال كثيرا إلى المدن التي زحف عليها النفط والمعمار الأخرس، لكني وجدتها مجرد قرى أكبر مساحة من قريتي، لا مسارح، لا دور خيالة، لا حدائق، لا جرائد يومية تتعثر بها على الأرصفة، فقط زحف إسمنتي ودكاكين، ومهرجان يومي للتسوق، وشراهة في الاستهلاك يتمخض عنها أهرامات من النفايات لم نعرف حتى الآن كيف نتخلص منها.

فكرت مرة أن انتقل إلى العاصمة، طرابلس التي أجد فيها نفسي، ثم أجلت هذه الفكرة إلى ما بعد حصولي على جائزة نوبل والتي قد تكفي لشراء بيت متواضع في طرابلس، وكل شطحة خيال فكهة تجتاحها كوابيس التاريخ والحغرافيا وأزمة وطن شاسع كان يسميه الرومانتيكيون (النسيج الواحد) بينما التمزق يراوده كلما تراجعت القوة القاهرة التي توحده.

مساء السبت 5/ 6 / 2010 كان من المفترض أن يكون موعد أمسيتي في مهرجان برلين للشعر الذي تقيمه ورشة برلين الأدبية في الفترة من 5/ 6 إلى 10 /6 بمشاركة حشد من شعراء العالم حيث من المفترض أن أكون ممثلا لليبيا، حيث من دون سابق معرفة تلقيت دعوة لحضور هذا المهرجان يوم 5/ 12 / 2009 مذيلة باسم الكاتب، رشيد أبو طيب، أحد أعضاء اللجنة المنظمة، واستمر التواصل حتى قبل أيام من بداية المهرجان، وعبر إجراءات تنظيمية غاية في الدقة، حيث وصلت تذكرة السفر الإلكترونية، ومكان الإقامة المقترح، بما فيها رقم الغرفة في الفندق، وبرنامج الفعاليات والتنقل طيلة أيام المهرجان. وصل كل ذلك قبل شهرين من بداية المهرجان، إضافة إلى طباعة قصائد مختارة وسيرة مترجمة لكل مشارك، تُنشر في كتاب مصاحب للمهرجان طُلِب مني التوقيع على نشره، وهو الكتاب الذي رأى النور دون أن أراه حتى الآن. كنت متحمسا لحضور هذا الاحتفال الشعري، وكان يراودني إحساس قوي أني لن أستطيع الحضور بسبب الجغرافيا والبيروقراطية الوطنية والتوجس الدولي الذي تقف بيني وبينه، مثلما حدث معي إبان الدعوة إلى مهرجان لوديف للشعر في فرنسا، ومهرجان المتنبي بسويسرا الذي وصلت فيه إلى شباك السفارة السويسرية، لكن الموظف الليبي المتجهم وضع العراقيل في طريقي، بل سَخَر مني ومن الشعر، فرميت بالأوراق في وجهه وأطلقت ساقي للريح في شارع بن عاشور وعدت الأدراج إلى بيتي.

عندما اتصلت بسفارة ألمانيا أخبروني أن التأشيرة تستغرق أكثر من عشرين يوما في الحد الأدنى ، وكان الوقت قبل المهرجان بعشرة أيام ، وكنت بذلك أحاول أن أقتصد السفر إلى طرابلس لمرة واحدة، لكن طرابلس بعيدة، وحين أخبرت الصديق رشيد باعتذاري دون أن أذكر السبب، رد علي برسالة عتاب قاسٍ يقول فيها: "لماذا لم تقم بذلك بعد حصولك مباشرة على الدعوة؟ لقد احتجتُ للحضور للدراسة هنا للوقوف ستة أشهر أمام السفارة الألمانية، وأنت تنتظر من السفارة أن تحضر عندك إلى درنة؟ المهم، أنا سأكلمهم هنا لعلهم يصنعون شيئا رغم أن الوقت تأخر، وللأسف فلقد أعجبوا فعلا بشعرك وكانوا يريدون لقاءك .. ولكن لله الأمر من قبل وبعد .. واعذرني إن كنت بالغت ولكن هذا يقلب كل السهرة رأسا على عقب". وفعلا انقلبت السهرة، والسبب دائما هو نفسه: البعد عن العاصمة وعدم القدرة على تحمل تكاليف السفر، وتعقيد الحصول على التأشيرة التي تتناسب طرديا مع الإسلاموفوبيا وسيل الهجرة من الجنوب إلى الشمال. بعد المسافة ليس إلى هذه البلدان فقط ولكن حتى إلى طرابلس عاصمتي التي كل سفر إليها يسبب لي أزمة مالية تستمر مضاعفاتها لشهور لاحقة، فتذكرة سفر إلى العاصمة وإقامة لبعض الأيام لإنهاء إجراءات السفر يتطلب ثلاثة شهور من دخلي المتواضع، وفي كل مرة كنت أعتذر عن الحضور دون أن أذكر هذا السبب المحرج، وفي كل مرة كنت أفقد الفرصة في تجربة مهمة للتواصل ولتمثيل بلدي.

الأمر بالنسبة لي لم يكن هجرة تستلزم مني مكوث ستة أشهر أمام السفارة كما أخبرني الداعي أبوطيب، ولكنها رحلة أيام معدودة لإلقاء بعض القصائد ثم العودة إلى حياة تضاعف ضنكها، ولذلك لم أرد على عتابه القاسي سوى بتكرار اعتذاري، مكتفيا باجترار حزني من جور المسافات وقلة الإمكانات التي تجعلك مكبلا، ومن هنا أفهم: لماذا ينتقل الكتاب والمبدعون في أماكن أخرى إلى العاصمة ويتكدسون فيها؟ حيث يقتربون من فرص النشر والمشاركة والتفاعل الثقافي والإبداعي، ومن هنا أفهم أيضا عبارة (أدباء الأقاليم) الدارجة في مصر والتي تعني أنهم خارج المكان، خارج التغطية، والتي بدأ يطلقها علينا بعض الأصدقاء في طرابلس تفكها.

وطرابلس ما عادت تبعدها الجغرافيا فقط، ولكن يبعدها أيضا التاريخ الذي استيقظ (مكموخا) في العشرية الأخيرة، وأصبحت تأتيني منها التهديدات اطرادا كلما كتبت منتقدا الإخوان أو الميليشيات أو دار الإفتاء أو ألاعيب جماعة الأخوان بها، ولا حول ولا قوة لي إلا أن أكتب تعويذتي بحذر ضد أي مستقبل شمولي في ظل العمائم أو بزات العسكر، وأعرف أيضا أن الكتابة في أرض شاسعة تتبجح بتاريخ الحروب والانتصارات المزيفة، ولا تاريخ فيها للقيم تسرده فنون الجمال، لا تغير من المصير شيئا، وكل الذي أفعله محاولة لشفاء الغليل.

حين أقمنا مهرجان طرابلس العالمي للشعر (20 ــ 22 أبريل 2012) حيث كنت عضواً مع الشاعر خالد مطاوع والشاعرة سعاد سالم في اللجنة التحضيرية التي يرأسها الشاعر عاشور الطويبي، وبدعم قوي من وزير الثقافة آنذاك د. عبدالرحمان هابيل ــ وصل العديد من الشعراء العرب، ومن أمريكيا وكندا وبريطانيا وإيطاليا وألمانيا وأيرلندا، في تلك الظروف الصعبة إلى مطار طرابلس قبل أن تحرقه ميليشيا بادي، وحافزهم القوي رؤية ليبيا بعد تلك الثورة التي تابعوها في وسائل الإعلام، وتحملوا بعض متاعب السفر، لكن كل واحد منهم أحضر فواتير مصاريف رحلته (غير تذاكر الطيران التي وصلت إليهم) من تذاكر سفر القطار، أو وجبات تناولوها في الطريق، أو سيارات تاكسي استقلوها، وكل الفواتير تم تسديدها من لجنة المهرجان. ومن ضمن القادمين كان رئيس مهرجان برلين للشعر الذي طلبت من الصديق عاشور الطويبي أن يترجم اعتذاري له، والأسباب التي حالت بيني وبين المجيء إلى مهرجان برلين قبل ست سنوات، وقال بأن المهرجان يتكفل بكل مصاريف الانتقال اليه من خروج المدعو من بيته، وأخبرته أن تلك المصاريف للحصول على التأشيرة وقبل الوصول إلى المطار تلتهم مرتب ثلاثة أشهر مسبقة، أما الدولة الليبية التي كانت مهتمة في ذلك الوقت بمن يروق لها،لا تدعم مثل هذه المشاركات التي تأتي فيها الدعوات من المهرجان مباشرة إلى المعني، بل أحيانا ما تجلب له مثل هذه الدعوات الشبهة بالتعامل مع جهات أجنبية، وأحيانا تكون عرقلتها من هذا الباب مثلما حصل في السفارة السويسرية التي كاد أن يخبرني فيها الموظف الليبي بأني جاسوس يتقنع بالشعر.

في هذه السنوات الأخيرة ومنذ العالم 2013 كانت تأتيني الدعوات تباعا من بعض المناشط الثقافية خارج ليبيا، ومازالت أسباب الاعتذار مستمرة، بل زادها الانقسام والطرق والمطارات والظروف المعيشية والأمنية حدة، أما المناشط الرسمية التي تتبناها المؤسسات الثقافية أو وزارات الثقافة منذ عام 2013 فلست معنيا بها، ولم أُدعَ لها، وعزائي دائما أن كتبي تشارك في العديد من معارض الكتب تلك، وعزائي قصيدة قديمة للشاعر الصديق عمر الكدي يصف فيها هذه الليبيا بالبلاد التي تحبها وتزدريك، وأكثر ما تزدريه هذه البلد ـ منذ أن سيطر عليها نظام التجهم ــ كل ما يمت للجمال والمرح بصلة، تزدري مثقفيها ومبدعيها وكُتابها منذ الثورة الثقافية وحتى لحظة كتابة هذه الشكوى التي لا تبرر، من جانب آخر، قصوري وقصور بعض المبدعين الليبيين وكسلهم، وخمول حس المغامرة لديهم، وتكبيل أنفسهم اختياريا بالتزامات أسرية واجتماعية تجعلهم يدورون كالخيول المربوطة في دوائر محددة، فكل شيء يحتاج إلى طاقة كي يتحرك، ويبدو أن طاقة مثل هذا الحراك هو المال، وحين يتقاضى مهندس على الدرجة 14 وبعد 40 عاما من تخرجه ما يعادل 200 دولار شهريا، فأزمة الطاقة التي تساعده على الحركة في ذروتها، وكل تقنياته في قلب الصمت حين يكون خارج التغطية. خارج التغطية واقعا ومجازا.