Atwasat

مأساة النيهوم (3)

سالم الكبتي الأربعاء 04 مايو 2022, 02:11 مساء
سالم الكبتي

(وسرت غضبان في التاريخ .. لا عنق إلا ومنك على طياته أثر تصفو وتجفو وتستعلي وتبتدر وتستفز وتستثني ..وتحتقر)

محمد الفيتوري

وصل النيهوم أولا إلى ميونخ للدراسة العليا في معهد جوته. وكان التخصص في ذلك يتجه نحو فقه اللغة لاغيرها.

تعرف هناك على صديقة فنلندية تدرس أيضا بالمعهد نفسه وصارت زوجته لاحقا. أحضرها إلى بنغازي وعقد قرانه عليها وتم توثيق ذلك في محكمة بنغازي الشرعية على يد المأذون السيد محمد مسعود الوحيشي.

كانت الجامعة الليبية تعمل على سد النقص في تخصصاتها بالكليات النظرية والعلمية التي تتبعها في طرابلس وبنغازي توخيا لتلييب المقاعد العلمية مع مرور الوقت. كان أغلب الأساتذة في كل الكليات من العرب والأجانب.. من مصر والأردن وفلسطين وتونس والعراق وفرنسا وبريطانيا وألمانيا والهند.. وغيرها. كانت الجامعة الليبية تشهد انفتاحا راقيا على العالم وتستفيد من خبراته الفكرية والعلمية وتتعاقد مع تلك الخبرات إما بالعمل أو بالإعارة أو بالزيارة.

ووضعت خطتها لسد النقص في التخصصات باختيارالمعيدين الليبيين كل عام وإيفادهم للدراسة في الخارج. وكان الإيفاد في معظمه يتم إلى جامعات ومراكز علمية ذات شهرة وصاحبة ثقة في الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وفرنسا ومصر. لم يتوقف الإيفاد سوى في الأعوام من 1964 وحتى 1967. عندها واصلت الجامعة الاستمرار في خطة الابتعاث ومتابعة خريجيها ومعيديها بالصورة العلمية الجامعية المعروفة. في كلية الآداب حيث تخرج النيهوم ظلت الجامعة تحتاج إلى المزيد من هؤلاء المعيدين في الدراسات ألإنسانية وكان الاهتمام بقسم اللغة العربية واضحا ضمن هذا الاتجاه والإيفاد إلى الخارج مثل بقية التخصصات في الكلية.

فاختير في مراحل موالية بعض زملاء النيهوم للدراسة العليا أيضا في القسم نفسه وسافر بعده لهذا الغرض.. مصطفى كامل الهنقاري إلى جامعة شيكاغو بالولايات المتحدة وعمرو خليفة النامي إلى جامعة الإسكندرية. كانا قد تخرجا في الدفعة الرابعة عام 1962.

أوفد النيهوم على هذا الأساس عقب تخرجه في يونيو 1961 مطلع عام 1962 بعد التنسيق مع معهد جوته وبدأ دراسته العليا بالمشاركة في دورات تتعلق باللغة الألمانية وإعداد البحوث اللازمة التي تسبق مرحلة كتابة الرسالة العلمية. وأشرف عليه أحد الأساتذة الألمان من المستشرقين المهتمين باللغة العربية وتفاصيلها ولم يكن موضوع الأديان المقارنة يدخل في تفاصيل هذا الإيفاد وهذه الدراسة.

ثم لم يواصل النيهوم أية دراسة علمية تتعلق بهذا التخصص وإنما ظل موضوعه هو التخصص في فقه اللغة العربية وحدها. وفي الواقع كان اهتمام النيهوم باللغة العربية وفكرها هاجسا يلاحق اهتمامه وموهبته منذ دراسته بالقسم في الكلية. كان يهتم بالفكر الذي تنقله اللغة وطبيعة الكلمة والكلمة والصورة الفنية والبلاغة المعاصرة التي تفيد موضوعات النقد وتثير الاهتمام لدى المتلقي بدلا من أن تظل في قوقعة الجمود.

وهذا كله خاصة ما يتصل بما وراء الكلمة ظل شغل النيهوم الشاغل في دراساته المهمة التي نشرها في ما بعد في صحيفة الحقيقة عن عبد الوهاب البياتي ونزار قباني ومحمد الفيتوري وعبد الباسط الصوفي. عن الموهبة والخلق الفني والمناهج التي ينبغي أن تتطور بعيدا عن الرتابة المنهجية التي تحدث في الجامعات التي لم يناصبها النيهوم العداء ولكنه حاول الدعوة إلى القيام بتطوير ما يوسع آفاق الطالب والمتلقي والباحث والدارس في كل المجالات.

كان يدرك أن اللغة حياة. واللغة فكر ولذلك أشار بوضوح إلى أن: (الفكر هو العملة الوحيدة التي تقبل في جميع الأسواق. الفكر وليس اللغة هو معجزة القرآن وهو أيضا طوق النجاة الذي تحتاجه الإنسانية أكثر من سواه عبر زحام الفلسفات الطائشة في العصر الحالي. أن الفكر مثل الموسيقي لغة للعالم كله فأثبتوا للعالم معجزة القرآن.. دعوه يسمع اللحن بنفسه لأن النوتة وحدها لاتكفي).

كما توجه في محاولته التي لم تتواصل أو تنجح لظروف عديدة لدراسة الرمز في القرآن وهي تعد دراسة لغوية أكثر منها تفسيرا للقرآن الكريم. إنني هنا أعيد التوكيد على ضرورة الفهم الحقيقي لخطوات دراسة النيهوم وأدعو بشدة إلى عدم تكرار موضوع دراسة (مقارنة الأديان)كما يقولون بسذاجة وكذا إلى إتقانه اللغة الآرامية المنقرضة (كيف يتقنها إذا كانت منقرضة) وكذا إلى نيله شهادة الدكتوراة من أمريكا لسبب بسيط يتمثل في عدم زيارته لأمريكا في الأصل طوال حياته.

لقد أسهمت مجلة الناقد عقب رحيله بطريقة معيبة في حق النيهوم في الإساءة إليه وإعداد سيرة مشوشة وخاطئة عنه في العدد الذي صدر خاصا بذلك الرحيل عام 1994 وظل الكثيرون خاصة من الليبيين يكررون ذلك وكان من الأولى لهم أن يصححوا ويصوبوا هذه الأخطاء الكبيرة التي ظلت لازمة ترافق سيرة النيهوم مثل ظله حتى بعد رحيله.

وتلك مأساة أخرى جنتها مجلة الناقد على النيهوم.. من حيث أرادت أن تخدمه! إن هؤلاء ظلوا في لقاءاتهم المكتوبة والمنظورة على القنوات يقولون ما قالته الناقد ويزيدون عليه ونقله آخرون وأصبح ذلك يسيء إساءة بالغة للنيهوم الذي كان ببساطة.. كاتبا ومثقفا ومفكرا من طراز نادر يستدعي الاختلاف العلمي والمنهجي معه ويحبب الآخرين في قراءته والحوار مع هذه الأفكار والآراء والموضوعات المختلفة في نقد التراث بصورته المشوهة والمجتمع وجوانب حياة الناس والدعوة إلى التطور والتنوير والانطلاق بالفكر والكلمة نحو دنيا من الجمال والتنوير والنهوض من الرماد الذي يرين على القلوب المظلمة.

وهناك في ألمانيا تأثر ببعض من كتابها. ووصفها لأصدقائه من خلال رسائله بأنها مرعبة. لم يجد النيهوم حضارة بالمعنى الذي يراه سوى حضارة مادية صرفة يموت فيها الإنسان وتقهر روحه. كانت ألمانيا خرجت قريبا من الحرب وأعيد بناؤها بشق الأنفس من أبنائها وانشطرت إلى شطرين. كانت الشرقية تمثل حضارة والغربية تمثل حضارة أخرى. صورتان مغايرتان لبعضهما وكان الكثير من شباب الشرقية يهربون كل يوم عبر الجدار إلى الغربية وأغلبهم يلاقي مصرعه برصاص الحراس المدججين بأعتى الأسلحة الذين يترصدون كل خطوة وكل حركة وكل همسة عند أبراج السور الصلد الكبير.

قال عن تلك الأيام أو تجربته الألمانية في إحدى رسائله لصديقه محمد الفيتوري (الشيخ) مورخة في 17 فبراير 1963.. (حياتي جيدة ليس فيها رضا حقيقي ولكنها جيدة إنني أحلم طول الوقت وأتعلم من الناس بلهفة وأحدثهم ببساطة وكبرياء حتى أشعرهم بالحقارة. تصور أني أظل طوال اليوم في المطعم أجلس بلا عمل وأنظر مباشرة في وجه الطباخ حتى جعلته يكسر الصحون ويرتبك مثل الطفل وقلت مرة لأجمل بنت في المعهد: هل صحيح أنكم لاتغسلون بالماء بعد المرحاض.

وأجابت هي ببساطة .. نعم لماذا ثم عاد وجهها في لون الدم وارتبكت تماما عندما رأتني أنظر إلى مؤخرتها بازدراء لا نهاية له!) .. ثم بلغ النيهوم إلى الموقف الأول بعد صدمته في ألمانيا إلى صدمة أقسى مع بعض زملاء الدراسة من الليبيين جعله يغير مكان دراسته إلى مصر ليحصل موقف آخر أصابه بالدهشة والصدمة وجعله يترك الدراسة العليا في فقه اللغة العربية والعمل معيدا بالجامعة الليبية. فما هما هذان الموقفان اللذان غيرا حياة النيهوم العلمية بالكامل..!؟