Atwasat

الديمقراطية حين تكره

سالم العوكلي الثلاثاء 19 أبريل 2022, 02:52 مساء
سالم العوكلي

تربط الأدبيات السياسية والفلسفة الأخلاقية الحروب، أو العنف عموما، بالكراهية. غير أنه في الأثناء تُطرح أسئلة من قبيل: هل العنف مرتبط ضرورة بالكراهية؟ وهل ثمة كراهية لا يكون العنف مصاحبا لها؟ وكيف يرتبط الاستخدام الحديث والقانوني لكلمة "كراهية" بالتاريخ الأطول والأوسع لمفهوم الكراهية كشعور؟.

صادف أن شرعت في قراءة كتاب (الكراهية، والسياسة، والقانون)* مع بداية نذور الحرب الروسية على أوكرانيا، أو بالأحرى، حرب الناتو على روسيا عبر أوكرانيا، وكانت هذه الحرب وما يدور حولها من ضخ إعلامي غزير تعزز الكثير من تحليلات هذا الكتاب، وربما لو أُلِّف الكتاب قبل هذه الحرب لأصبحت مادة دسمة له في ضرب الأمثلة، خصوصا في ما يتعلق بمفهوم الكراهية المتضمنة في خطاب الديمقراطية الليبرالية الحديثة.

في فصل (كراهات ديمقراطية؟: صناعة "العدو المكروه" في الديمقراطية الليبرالية) يجادل كاتبه، ميكل ثورب، بأن العنف كان في أوروبا قبل الحديثة "يعدّ بشكل سائد جزءاً مكملا للحياة اليومية. وكان العنف أكثر شيوعاً منه اليوم فهو يعدّ جزءاً لا مناص منه من الحياة. لا شيء، ربما باستثناء "المجيء الثاني" [للمسيح]، يمكنه أن يغير استمرارية العنف وحضوره. ولم يكن العنف في حاجة إلى تفسير. لقد كان قدراً، وجزءاً مكملاً للظرف البشري. وقد تغير هذا على يد الحداثة، الحداثة الديمقراطية أساساً. في الحداثة بدأ العنف يصبح إشكالياً، بل عملاً فاضحاً، لأنه لم يعد يُعدّ ظرفاً من ظروف الحياة بل أصبح نتيجة ما تقوم به مؤسّسات. لقد أصبح العنف غير ضروري وهمجياً، وانتقل من كونه خارج نطاق السيطرة البشرية إلى ظاهرة بشرية تماماً.".

يحاول ثورب هنا أن يضع تجريم الكراهية ضمن ابتكارات منظومة الحداثة القيمية، وما صاحبها من خطابات تعزز فرص السلام ومن مواثيق تتعلق بحقوق الإنسان، ومن تبدلات جذرية لمنظومات القيم التي تناسب الإنسان العصري، غير أن (الكراهية) كشعور تم التوقف عندها فلسفيا منذ القدم في محاولة لمفهمتها مقارنة بمشاعر وسلوكيات إنسانية أخرى قريبة منها.

"حين قارن أرسطو في (الخطابة) بين الكراهية والعداوة وبين الغضب، لاحظ أن الغضب موجّه ضد أناس بعينهم قاموا بأفعال بعينها. الغضب محدد من حيث السبب، والأشخاص، والزمن. غير أن الكراهية أكثر تجريداً، فهي تتعلق بجماعات، وليست مقيّدة بزمن، وهي لا تتلاشى حين تُنسى الإساءة، بل تظل تتحكم في المرء وتحرّكه.... قد تكره شخصا لم يسبق أن قابلته لأن عضويته المزعومة في جماعة مكروهة هي نفسها تحدٍ. ليس الأمر فحسب هو (أكرهك لكونك ما تكون)، بل أيضا (ما دمت تكون، لا أستطيع أن أكون)؛ أو على حد تعبير سيرين كيركغورد، بالنسبة لمن يكره "كَرْبٌ أن يتنفس في العالم الذي يتنفس فيه من يكره. إنه يخشى من فكرة أن الأبدية سوف تضمهما معا.

" الآخر المكروه عائق لوجودي. وفي حين أنك في الغضب ترغب في إلحاق الضرر بالآخر، فيما يقول أرسطو، فإنك في الكراهية ترغب في تدميره.". من خلال هذا الاقتباس الذي لم أستطع اختصاره، هل بالإمكان أن نزعم أن حرب روسيا على أوكرانيا تقع في دائرة (الغضب) الذي يظهر جليا في خطاب وسائل الإعلام الروسية، وأفكار المحللين السياسيين، وبوتين نفسه في أحاديثه، حيال ما يقوم به الجار الكاره من استفزازت على حدوده، وبما يتعرض له المكون الروسي داخل أوكرانيا من كراهية يُعبر عنها صراحة في القوانين التي تُسنُّ تباعا، وفي قصف الجيش الأوكراني المتواصل على إقليم دونباس الناطق بالروسية منذ 8 سنوات.

بينما ردة فعل الغرب العقابية بكل مؤسساته السياسية والعسكرية والاقتصادية والرياضية والثقافية، تقع في قلب (الكراهية) التي لا تسعى لإيقاف الحرب أو مجرد إلحاق الأذى بروسيا، ولكن إلى تدميرها لأن الطرف الآخر تقريبا (لا يستطيع أن يتنفس في هذا العالم الذي تتنفس فيه روسيا). تقريبا كل وسائل الإعلام بما فيها معظم الناطقة بالعربية، تمارس الآن الحث على الكراهية علنا تجاه العنصر الروسي برمته دون أن تستثني من كينونته شيئا، لدرجة تطال العقوبات الرياضيين والموسيقيين والتراث الأدبي الروسي وحتى يخوت واستراحات المواطنين الروس واستثماراتهم في أوروبا.

وهذا ما يجعلني الآن لا أتابع إلا قناة الآر تي الروسية، التي لا أجد فيها خطابا صريحا للكراهية بهذه الحدة، فهي تؤكد على التشابك الحضاري والثقافي بين الشعبين، وتركز في حربها الإعلامية على الجماعات النازية التي لا تخفي هويتها، بما تشكله من خطر ليس على روسيا فقط ولكن على فكرة العالم الجديدة التي كان من المفترض أن تُرسى بعد القضاء على النازية والفاشية إبان الحرب العالمية الثانية، وميثاق تأسيس منظمة الأمم المتحدة يسعى في الأساس لنمذجة هذا العالم الجديد دون حروب فتاكة، لكن سرعان ما سرقت المنظمة من هذا الحلم، وأصبح دورها شرعنة الحروب الفتاكة التي أشعلتها أمريكا في بقاع العالم في ظل شعارات نشر الديمقراطية والحرية، مثلما اتكأت الحقب الكولينالية السابقة على شعار نشر الحضارة.

تقول وندي راون في كتابها (النفور العظيم): في منتصف القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين، تخيّل "الغرب" نفسه على أنه يدافع عن الحضارة ضد البدائية، ويدافع في سنوات الحرب الباردة عن الحرية ضد الاستبداد؛ والآن تم دمج هذين التاريخين المعاصرين في الشخصيات المناضلة من أجل الحرية، والمتسامح والمتحضر في جهة، ضد الأصولي، وغير المتسامح، والمتوحش في الجهة الأخرى."

ليس من الوارد أن نتجاهل أن كل مبدأ أخلاقي أو قانوني يعتبر غزو دولة لدولة أخرى عملا مُجرّما، ودون أن ننسى تفحُّص الأسباب أيضا، ولكن السؤال المقلق: لماذا لم يحدث كل رد الفعل هذا حين اجتاحت أمريكا أفغانستان والعراق، أو حين دخلت شرق سوريا لحماية حلفائها الأكراد، أو حين اجتاحت تركيا شرق سوريا لحماية التركمان، أو لمحاربة الأكراد الذين تصنفهم إرهابيين، أو حين شنت إسرائيل حروبها الفتاكة على شعب محاصر وأعزل في غزة؟ لماذا لم تكن هناك عقوبات، أو منع من المشاركة في دورات رياضية، أو في مهرجانات ثقافية؟. هذا ما يؤكد أن كراهات الديمقراطية صنفت العالم وفق مزاجها الخاص إلى محور خير ومحور شر، لتصبح الحروب مبررة حين تقوم بها القوى (الديمقراطية) المحسوبة على (الخير)، حتى وإن كان هذا الاجتياح لدولة تبعد عن حدودها آلاف الأميال، ومُجرَّمة حين تقوم بها دول محسوبة على (الشر) حتى وإن كان التهديد على حدودها.

تبدو الغاية تبرر الوسيلة مقولةً مستهلكة، لكنها مازالت قابلة للاستهلاك بشكل كثيف حتى هذا اليوم، وهي كوجيتو ما سمي بالبراجماتية أو النفعية أو غيرها من التسميات التي تقع كلها تحت عنوان رئيس (الليبرالية)، مذ أن وضع ميكافيلي أسسها بشكل إجرائي واضح، ولم تُنقح هذه الفلسفة المكيافيلية التي تتعزز بقوة في العالم الديمقراطي، إلا مع كتابين مهمين أُلفا بعد عام 1989 في الديمقراطيات ومهدداتها: كتاب فرانسيس فوكوياما (نهاية التاريخ) وكتاب صموئيل هنتغتون (صدام الحضارات) . ورغم التقابل بين الكتابين إلا أنهما ـ كما يقر ثورب ـ يتفقان على "تحوّل الشك في الذات وكراهية الذات الديمقراطيتين إلى كراهية مزدوجة للآخر، كراهية بوصفه غير الديمقراطي وبوصفه المتفوق. ويعرّف هنتنغتون نفسه والآخر، الأصدقاء والأعداء، كراهيتهم لنا وكراهيتنا لهم، خارج الديمقراطية في الإثنيوات.". تبرز هذه الثنائية التي تشتغل بين الشعور بالدونية وبين التحدي في مظاهر عديدة. يستهل ثورب بحثه بمقولة نيتشه "يلزم أولا أن يصبح الثعبان تنينا، قبل أن يمسي المرء بطلا في محاربته" وهو المنحى الذي يجعل ساسة أمريكا ينفخون في العدو ويضخمونه قبل خوض الحرب معه لرفع مستوى التحدي. "لا شرف في هزيمة ثعبان حشائش صغير ـ يقول ثورب ــ لكن هزيمة تنين مسألة أخرى، ولهذا يعلى من شأن العدو بحيث يصوّر الصراع معه على أنه من أجل الحياة أو الموت.ومن هنا نستطيع أن نفهم كيف أصبحت الديمقراطيات تتعامل مع الآخر بروح استبدادية وبعنف ظاهر لأن هنتغتون أقر بأن "الغربيين أصبحوا ضعفاء من خلال دولنة القيم الديمقراطية في المساواة، والتسامح، والتسوية، والسلام، إلخ.، التي نتج عنها "انحطاط أخلاقي، وانتحار ثقافي، وتفكك سياسي في الغرب".

ثقتها في نفسها وإرادة الهيمنة" يتلاشيان. وبهذا فقدت ما اعتبره معيار الثقافة والسياسة: "لا نعرف من نكون إلا حين نعرف من لا نكون، وغالبا فقط حين نعرف من نحن ضدهم." وانطلاقا من مثل هذه التوطئات تذهب أساليب بث الكراهية عن طريق الخطابات الليبرالية إلى بُعد تاريخي وثقافي، بل وجودي، يؤكد على أن العدو المكروه من قبل الديمقراطية شر مطلق في الأساس "بعد شهر فقط من هجومات الحادي عشر من سبتمبر، في 8 أكتوبر، نشر المؤرخ العسكري الشهير جون كيغان مقالة في صحيفة التيليغرف اللندنية تحت عنوان "في حرب حضاراتنا هذه، سوف ينتصر الغرب." ومتأسيا بصموئيل هنتنغتون، وصف كيغان "الذهن الإسلامي" بأنه كينونة كلية لم تتغير منذ بدو محمد حتى اليوم تظهر نفسها بطريقة خادعة في الحرب.".

* الكراهية، والسياسة، والقانون: منظورات نقدية في مكافحة الكراهية. تحرير: توماس برودهولم & بيغيت شيبلِرن يوهانسن مطبوعات جامعة أكسفورد 2018. ترجمه إلى العربية: نجيب الحصادي. قيد الطبع.