Atwasat

ليبيا بين أنقرة وأثينا

رافد علي الخميس 17 مارس 2022, 01:15 مساء
رافد علي

حظي لقاء القمة التركية اليونانية الأحد الماضي (6. 3. 22) في تركيا باهتمام دولي بسبب طبيعة العلاقات المشحونة بينهما ببحر إيجا الذي تتنازع فيه الدولتان حدودياً وعرقياً، فقد جاءت قمة الأحد على ضوء تداعيات الحرب بأوكرانيا باعتبارهما عضوين في حلف الناتو الرامي لإظهار وحدة صفوفه

البيانات الرسمية للقمة، من الطرفين، تصب فى صالح الحوار والدبلوماسية الهادئة، رغم الملفات العالقة بين البلدين، المتعلقة بتنقيب الأتراك على الغاز بشرق المتوسط، خصوصاً بعد توقيع اتفاقية ترسيم الحدود البحرية التركية-الليبية أيام حكومة الوفاق برئاسة فائز السراج، التى عارضتها أثينا، وطردت السفير الليبي لديها حينها، السيد محمد المنفى احتجاجاً على ما اعتبرته أثينا اتفاقية تعزز الأتراك سياسياً بالمتوسط، دون التقليل من الجدلية القانونية القائلة بأن الاتفاقية "عديمة الأثر القانوني لأنها مبرمة من قبل حكومة ليبية تدير وضعية سياسية استثنائية في ليبيا، وهي غير مخولة بإبرام أي اتفاقية دولية" استناداً على اتفاق الصخيرات، الأم التليدة لحكومة فايز السراج وقتها. فاليونان حينها سعت للتقرب من حفتر عبر دعوته رسمياً لزيارتها في فبراير 2021، كما سعت لتلطيف الأجواء مع المنفي بعد تسميته رئيساً للمجلس الأعلى للدولة، ولازالت اليونان على نهج طيب مع الرجل وأسرته، حسب ما تشير العديد من التقارير الصحفية بالغرب.

تركيا اليوم، فى ظل التأزم الليبي الراهن بازدواج الحكومات في طرابلس، باتت تدرك أن أمر اتفاقية الحدود البحرية صار بيد البرلمان للتصديق عليها، ولهذا كانت أنقرة من المرحبين بباشاغا، كرئيس لحكومة الاستقرار، النقيض السياسي لحكومة الوحدة الوطنية برئاسة الدبيبة، القريب من رابطة الشركات الرسمية التركية المهتمة بالسوق الليبي. فيرجح الآن، وعلي نطاق واسع هذه الأيام، أن باشاغا والدبيبة سيلتقيان فى تركيا بقصد التفاوض لحلحة الاحتقان السياسي الراهن بقصد تفادي أي صدام، وإدارة المرحلة الراهنة للوصول للانتخابات في "أقرب فرصة ممكنة"، والابتعاد عن التصعيد كما حصل مؤخرا بالعاصمة وضواحيها.

تركيا الآن فى منطقة جوار مشتعلة بالاضطرابات والقلاقل، فإلى جانب حرب بوتن الحالية، فهي دولة جارة لسوريا والعراق وإيران، وتسعى من خلال تواجدها سياسياً، وعلى الأرض، فى ليبيا؛ أن تكسب أوراق ضغط جديدة تكفل لها صون مصالحها التي حققتها في العقدية الأخيرة، على الأقل، أمام منافسيها بالمنطقة، أو أمام الاتحاد الأوربي ككتلة اقتصادية مهمة بالمتوسط، وكداعم لغريمها التاريخي أثينا. فتركيا تتخذ من ظاهرة الهجرة غير الشرعية ورقة ضغط هامة أكسبتها 3 مليار يورو، كدعم أوربي لأنقرة في مواجهة موجات اللجوء إبان الحرب السورية، وأجلست تركيا كمفاوض أساس في أول قمة تركو-أوربية تتعلق بمستقبل عضويتها، وتتعلق بنشاطات أعضاء حزب العمال الكردستاني ببعض عواصم الاتحاد، إلا أن المفاوضات انتهت 2018 بسبب اعتقالات اردوغان لخصومه بدواع أمنية أاعتبرت أوربياً وامريكياً أنها "ادعاءات ملفقة".

يأتي اللقاء بين اردوغان واليوناني ميتسوتاكيس ضمن حملة دبلوماسية تركية بقصد تهدئة الأحوال علي أصعدة مختلفة كما هو الحال مع إسرائيل، ومع واشنطن التي لازالت حكومة بايدن تضغط على أنقرة بفرض بعض العقوبات بسبب قضية "الذهب مقابل النفط"، الهادفة للتحايل علي العقوبات الدولية المفروضة على طهران، والمتورط فيها بنك الشعب التركي-Halk Bank ومديره التنفيذي محمد هاكان اتيلا، وتاجر الذهب التركي-إيراني رضا ضراب، فالقضية لازالت قيد نظر المحاكم في كل من أنقرة ونيويورك، ورد بنك خلق على لائحة الاتهام الأمريكية فى مارس العام الماضى يُستشف منه مدى الضغط الأمريكي على الأتراك، والقادر على أن يسيس فى أية لحظة إعلامياً، وفى وقت تشير أحوال السوق العالمية لارتفاع السلع الأساسية بسبب قرب شهر رمضان، وحرب أوكرانيا بينما الليرة التركية ليست فى أحسن أحوالها.

ليبيا، بوضعها المشوش سياسياً، تظل أحد الاهتمامات التركية بسبب مكسبها الاستراتيجي بتوقيع الاتفاقية المذكورة، إلى جانب محاولتها حفظ نصيبها من الكعكة الليبية اقتصاديا، وكذلك لحماية وجودها الجغرافي في منطقة الساحل والصحراء، ولرعاية حلفائها سياسياً بالمنطقة لتعزيز موقفها التفاوضي أمام الآخر. فهل الليبيون على مقدرة حقيقة لتكييف كل هذا لصالح وطنهم بعيداً عن توظيفه لمصالحهم الشخصية؟!.

تركيا في كل المعمعة الليبية الراهنة تدخل المعترك لأجل حماية مصالحها أولاً، فهى تتحدث بمنطق مؤسسة مهتمة بالعلاقات التركية-الليبية، وليست العلاقات الليبية-التركية، فليبيا اليوم مشتتة بين أبنائها. والزعامة، أو القيادة فى البلاد قضية جدلية معقدة، بسبب حالة الاستقطاب المسيس والحاد بين أطراف المشهد المنقسم على ذاته، وهذا بذاته موضوع مربك لنا كليبيين. فإذا ما نظرنا إلى النظريات البنيوية السائدة فى العلاقات الدولية اليوم، والتي تتجاهل تأثير المتغيرات على "الدبلوماسية الشخصية" للساسة أو القادة حين التفاوض لخلق أي حلحلة، فهى نظريات تُنتقد بشدة بسبب عدم التركيز على القدرة البشرية والإرادة الفردية في العلاقات الدولية، لأنها نظريات تفشل في فهم أهمية القيادة التي تعطي معنى لبنى الدولة المخولة بصنع القرار فى السياسة الخارجية كالبرلمان والاستخبارات والنخبة الدبلوماسية وغيرها من مراكز القوى. فأردوغان منذ الانتقال للنظام الرئاسي، ووسط تحالفاته السياسية المحلية التى أقامها، صار صاحب أثر كبير على توجهات سياسة بلاده الخارجية، كونه صاحب أغلبية برلمانية. بمعنى آخر، إن الرجل يعرف ما يريد ضمن مطالب ومصالح مؤسسة بلاده.

سيذهب الرجلان، باشاغا والدبيبة، للتفاوض بينهما في حالة ترسيخ جلي لدبلوماسية شخصية بسيطة التركيب، لأن المرجعيات لكليهما محدودة في بلد مشطور على نفسه، وبقيادة بالكاد تملك زخماً وعراقة. لكنني، فى كل الأحوال، سأكون مبسوطاً، كأي مواطن بسيط ومغلوب على أموره، بأن هذه الوضعية البائسة أفضل من أهوال الصدام المسلح.