Atwasat

أرسطو والشجاعة.. والمقاومة الأوكرانية

جمعة بوكليب الأربعاء 16 مارس 2022, 12:45 مساء
جمعة بوكليب

استناداً إلى تعريف الفيلسوف اليوناني أرسطو، فإن الفضيلة تتموضع في منتصف المسافة بين رذيلتين. وعلى سبيل المثال، فإن فضيلة الكرم تتموضع في نقطة بين رذيلتين، هما التبذير والبُخل. وفي ما يتعلق بفضيلة الشجاعة فإنها تقع في نقطة بين رذيلتين، هما التهور والجبن. وهذا يعني عملياً أن الفضيلة في التعريف الأرسطي هي اختيار موقف وسطي بين موقفين / قطبين متطرفين.

أرسطو يربط الشجاعة في الحرب بالخوف من التعرض للإصابة بجروح أو من الموت. ويرى أن المرء الذي لا يخشى الموت لدى مواجهة العدو في حرب تنتفي عنه الصفة البشرية. لكن الشجعان يتمكنون من السيطرة على خوفهم الإنساني من أجل تحقيق غاية نبيلة. ما يهم أرسطو في طبيعة الشجاعة هو التركيز على الدوافع التي تدفع البشر إلى الفعل، وليس ما يبدو أنهم يفعلون. والشجعان يتخندقون في مواقعهم، ويصبرون في الوغى، لأن أي فعل مخالف لذلك يلحق بهم العار. أرسطو يميز بين الشجاعة وبين أفعال العاطفة الحيوانية والانتقام والغضب... إلخ. وبالتأكيد، فإنه لا ينفي دور العاطفة والانفعالات في علاقتهما بالشجاعة، إذ يرى أنهما بمثابة الوقود لها. لكن لكي تكتسب الشجاعة اسمها ومصداقيتها، يجب أن تنبثق من دوافع خيّرة، وغايات نبيلة. ففعل مثل حرق مطار طرابلس العالمي في حرب العام 2014، على سبيل المثال لا الحصر، لا يمكن أن يكتسب مرتكبوه فضيلة الشجاعة، لأن دوافعهم (الانتقام والغضب) ليست خيّرة، وغاياتهم ليست نبيلة.

وقياساً على ذلك، فإن ما يبديه الأوكرانيون من مقاومة ضد الغزو الروسي لبلادهم، لا يمكن، في رأيي، أن يصنف تحت خانة رذيلة الجبن. لكن من الممكن جداً تصنيفه تحت خانة فضيلة الشجاعة أو رذيلة التهور. وهذا يتوقف على موقف المرء مما يحدث في تلك البقعة من العالم من فظاعات. فإن كان من الواقفين على الضفة الروسية، فإن حكماً برذيلة التهور أقرب إلى التحقق. وإن كان يقف على الضفة المقابلة فإن فضيلة الشجاعة ستكون الحكم. لأن الأوكرانيين يقاتلون بدوافع خيّرة ويهدفون إلى تحقيق غايات نبيلة، أو، على الأقل، هذا ما يدعونه ظاهرياً، ولا نستطيع إثبات خلافه.

في حرب فيتنام، صمد الفيتناميون بإمكاناتهم القليلة ضد أقوى آلة عسكرية في العالم، وتمكنوا من دحر الأميركيين وهزيمتهم، خلال سنوات قليلة. الفيتناميون، وفقاً لتعريف أرسطو، حظوا بفضيلة الشجاعة ليس لانتصارهم في الحرب. ذلك أن النصر والهزيمة، وفقاً لأرسطو، لا علاقة لهما بفضيلة الشجاعة. بل لتمكنهم من السيطرة على غريزة الخوف من الموت خلال الحرب، ولم يفروا خشية العار. ولأنهم امتلكوا الدافع الخيّر، وكان صمودهم بهدف إلى تحقيق غايات نبيلة. وتأكد صدق دعواهم.
في التاريخ الإسلامي، تمثل موقعة «بدر» مثالاً آخر يمكننا الاستنارة بدلالاته في هذا السياق، إذ إنه بالعودة إلى تلك المعركة التاريخية، فإن النظرة الأولى للحكم على قوة واستعداد الطرفين لها، تجعلنا نرى، وفقاً لتعريف أرسطو لفضيلة الشجاعة، أن مجرد ظهور القوة الإسلامية الصغيرة أمام قوة المشركين، ينفي عنهم يقيناً صفة رذيلة الجبن، وفي ذات الوقت يقربهم من رذيلة التهور. لكن لوجود الدافع الخيّر، والغايات النبيلة، لدى المسلمين ممثلاً في حق الدفاع عن النفس، والعقيدة الجديدة، فإنهم حظوا بفضيلة الشجاعة.

وهناك الكثير من الأمثلة والشواهد التاريخية المشابهة لموقف المسلمين في معركة «بدر»، ولموقف الفيتناميين في حربهم ضد أميركا. وبالتالي، فإن الحكم بالتهور على المقاومة الأوكرانية في مواجهة الآلة العسكرية الروسية الهائلة، ربما يكون مجانباً للصواب، أو، على الأقل، هذا ما تثبته، إلى حد الآن، وقائع ومجريات المعارك هناك، وصمودهم الذي فاق التوقعات. لأن المقاومة الأوكرانية ترى دفاعها عن بلادها، وعن حقها في الوجود وتقرير مصيرها، وحرية وسيادة قرارها منبثق من دافع خيّر غايته: حرب من أجل البقاء. وأن الهزيمة في الحرب قد تعني ليس فقط نهاية الدولة الأوكرانية المستقلة، بل ربما اضمحلال الهوية الأوكرانية وذوبانها في بلدان المنافي، كما حدث لشعوب وأمم أخرى.