Atwasat

الحرب حرب...!

أحمد الفيتوري الثلاثاء 15 مارس 2022, 10:34 صباحا
أحمد الفيتوري

لم يكن صاحب سفن كي يحرقها، ومن سفن يأتي ما يحرقه، كما باغتته الغفلة باغتته الوحدة، وهما مجدافاه حيث مركبه: لعلعة رصاص من البر، وانفجارات قنابل من البحر، وكل هذا مستتر. حطاب ليل ونفسه حمالته، تبا من نفس في جيدها حبل حيرتها، تلمس حصاره مرة، ومرة مفرا مدبرا معا، لعل في المحصر فك العقال. هج داسا وجله، في هجة أهل المدينة إلى أطرافها، عله يتبين الخيط، ظنه أن ليس كل منسحب مهزوما، ذلكم ما وكد لذاته، أليس جسده بيتا، إن أغلقت أبوابه، فساحاته مفتوحة على الأفق؟.

لم يعط ظهره لأفق النار، حيث شاهد الأشجار تطير، والطيور تتخبل، مصطدمة برؤوس بشرية مقطوعة، تزاحمها الفضاء. اختلط المطر بالفرقعات، وجذوع نخل سابحة، في انسحابه هذا مع الهاجين، تكشف أنهم تهيئوا لقوس مرمى المدافع، حيث تتمزق أجساد الأمهات، وتتطايرمن أيديهن التي وهنت، لفائف رضعائهم. قفز حينا متلقفا لفة، وكبا حينا كي لا تطاله شظية، من هول ما سمع، عد ما رأى نسج مخيال مريض، كذا من هول ما رأى، عد ما سمع وجيب قلب جبان. قطع حيرته من دابرها، بأن خرج عن حزب الخوف، ففي كل مطرح تقابلا معا، هو في فراره وعزرائيل في مطاردته. منذ ساعات الليل الأولى، والطرادات السبعة الراسية قبالة الشاطيء، تطلق مدفعيتها وتسلط كشفاتها، رصاص يلعلع في الأجواء، لا يعرف من يطال، لكن حزم أمره، على أن عزرائيل قد يطاله من الظهر أيضا، لذا توخى الحذر المشوب بتهور الخائف.

تخطى السباخ سالما، وتعدى حي البركة، الذي تطاله مدفعية البواخر الحربية، هنا اختلط الهاجون، بجنود مرتبكين، وأهالي يحملون بنادق قديمة. وكما رأى شرر الشظايا يتعقبه، توجس شرر العيون، فتخفى مندسا بين النسوة، متخذا سمة خادم يساعدهن في فرارهن. تاه متخبلا في خيوط الفجر، التي تسللت كثعابين، من شقوق السحب الركامية. في قرية القوارشة، على بعد مسافة قطعها بشق الأنفس، ساعد في حشد الأطفال، تحت خيمة ركزت على عجل، من أردية النسوة، اللاتي صرن شبه عاريات.

لم تسكت المدافع، لم تسكت هواجسه، لم يسكت الأطفال الصارخون والنسوة المولولات، لم تسكت رعود السماء، وسكت جوعه، لم يذق الطعام مثل غيره، منذ ظهرت الطرادات السبع، وناقلات الجنود العشرين، على الشاطئ فجر يوم أمس. في لحظته تلك التي لملم فيها كيانه، سمع من يصرخ، أن جنود النصارى ينزلون من قوارب في الجزيرة، التي تفصلها عن المدينة سبخة. عرف أن ليس ثمة مطرح، دون توكد من سبيل اندفع في ذلك اللا سبيل، لعل جبلا يؤويه، عند شجيرة بطوم، حط رحاله حين تجسد الفجر كاشفا شتاته، فيما تبين عن بعد المدينة تشتعل النيران في شمالها وغربها، هو من لم يغادرها البتة هاربا منها الآن أو هاربا عنها؟، تاركا أختيه لما شاءت الأقدار، وبيتهم لمدكات سفن غازية، من بنى غازي إلى أين؟، نهض متكئا على حيرته متوكدا من ضياعه، من لا يعرف السبل.

تسللت خيوط شمس ذهبية، مندغمة في خيوط شعره، وعند بركة ماء، في الطين وقف، ليشهد زرقة عينيه وحمرة بشرته، كما لم يشهد قبل في مرآة، وإن شهد وسامته، في نظرة عيون نسوة الجيران خاطفة، أو في عين رجل مرتبكة، اغتسل وفك بالماء الشديد البرودة نفسه، من شباك الوهن. سجين هذه البطاح كما كنت سجين بيتك، حدثته النفس اللوامة، استراب في أنه ضيع الطريق، وتيقن من جوع وخوف، حشرت النفس في البيت منذ شهور، عقب قتل أبيك، ثم دفنتها دون موت، بعيد قتل أمك، هذا الهاجس ما يطارده، كما لو كان شيطانه المعلق في عرقوبه. رشف رشفات من غدير، عقبها قرقرة البطن، لو لم تمطر لمت من عطش، حدث نفسه بصوت اجتاز أذنيه وهزه، في خلاء تملأه شجيرات بطوم، فالفراغ الذي يدفعه دفعا للتقدم نحو اللا شيء.

تلك الحرب فما أسبابها؟، كتب أولدس هكسلي وترجم محمود محمود: "الشعور بالقومية وحب الوطن، سببٌ قوي من أسباب الحروب. إن فكرة القومية، مُحبَّبة إلى النفوس، لأن فيها إرضاءً لبعض رغبات الإنسان؛ فالقومية عقيدةٌ دينية، الإله المعبود فيها هو الدولة، ورمزها الملك أو الدكتاتور المُقدَّس. والفرد في هذه الدولة المقدَّسة، يعتبر نفسه أرقى، من جميع الأفراد في جميع الشعوب الأخرى.

وإذًا ففي هذه العقيدة القومية، علاجٌ لعقدة النقص. وقد أدرك الدكتاتوريون هذه الحقيقة، فتراهم يُؤجِّجون نيران الغرور القومي، فيجنون ثمار ما يعملون، في اعتراف الملايين لهم بالجميل؛ لأن هذه الملايين تنعم بالاعتقاد، بأنها تتشرف بالعضوية، في أمةٍ مُقدَّسةٍ مجدها أثيل. إن الفرد العادي فقير لا أهمية له ولا قيمة، ولذا فهو يجد، في انتمائه إلى أمةٍ مجيدةٍ، بعض العِوض عن ضَعته وتفاهته. ويَكمُن وراء تقديس الدولة خطرٌ آخر، وذلك أن أكثر الرجال والنساء، يسلكون في الظاهر سلوكًا حسنًا، ولكنهم يُضمِرون في نفوسهم، دوافعَ دنيئة لا يقرهم عليها المجتمع. وإنك لتراهم فَرحِين، بقصص العصابات والقرصان والخداع، لأنهم عن طريقها، يُنفِّسون عما تنطوي عليه نفوسهم الخبيثة. وهم يجدون في الدولة، ما يجدون في هذه القصص، بل يجدون فيها أكثر من ذلك، لأن الدولة شخصيةٌ معنويةٌ مقدَّسة، عظيمةٌ في قوتها وسلطانها، ولكنها منحطةٌ من الوِجهة الخلقية. إن أخلاق الساسة في الشئون الدولية، لا تختلف في شيء عن أخلاق عصابات اللصوص والقرصان والمُخادعِين.".