Atwasat

حكايتي والقمح

سالم العوكلي الثلاثاء 15 مارس 2022, 10:32 صباحا
سالم العوكلي

لا أعرف لماذا تذكرت في هذا الوقت بالذات حكايتي الشخصية مع القمح، أو سيرتي مع هذا الكنز الذهبي الذي كان مرآه يوما ما وهو يتمايل سنابل في الحقل، أو مُخزّناً في طيات من التبن في الكهف، أو يتدفق من راحة أمي صوب لولب الرحى، يجلب الطمأنينة من كابوس لاحَقَ هذه المجتمعات عبر قرون ، وهو كابوس الجوع أو المجاعات التي تسببت في تبدلات ديموغرافية عميقة في تاريخ هذه الأرض ومحتواها البشري، وهذه الجغرافيا المترامية التي إذا ما حل فيها الجوع في جزء ظهرت الوفرة في جزء آخر فتجذب سيلا من النازحين صوب مواطن القمح.

كان مرأى القمح يعني الطمأنينة بأن لا نجوع مهما كانت مقومات الحياة الأخرى تعيسة، من ملابس أو سكن أو تنقل أو طقس.

هكذا انتبهت طفلا، أو بمعنى آخر، في العمر الذي تبدأ فيه الذاكرة في التسجيل والتوثيق، بأكداس القمح المحفوظة في الكهف مغلفة بطبقات من التبن، تخرج من هذا الخزين إلى الرحى كل ليلة حيث يبدأ الشروع في إعداد وجبات اليوم التالي مصحوبا بسهر أمي وغنائها، ومن ذاك الطحين الأربد كانت تُعد وجبات الدشيشة والكسكسو والعيش والزميتة والقليّة (القمح المحمص الذي يصاحب جلسات الشاي والذي حلت محله فيما بعد الكاكاوية التي كانت تأتي من مزارع طرابلس وضواحيها). وفضلا عن ذلك كان خبزنا اليومي الأسمر الذي لا أتذكر أنه غاب أو نقص، حيث كان التنور أهم قطعة في أثاث البيت بعد الرحى، والتحطيب مصدر الطاقة الوحيد، وغالبا ما تتكفل النساء بهذا العمل، بل أنهن من يتكفلن بأكثر من ثلاثة أرباع الأعمال المسؤولة عن استمرار الحياة ونوعيتها، من صناعة بيت السكن وأثاثه وفرشه، وكل صنوف الطعام داخله، وجلب الماء والحطب، وما يفيض من وقت تستطيع أن تساعد فيه الرجال في أعمال الرعي أو الفلاحة أو الحصاد، وهذا ما جعل للمرأة قيمة جوهرية في مثل هذه المجتمعات، وما جعل الرجال يبحثون عن المرأة (الحرة) الحِرّة، التي تتمتع بمهارة إدارة الحياة بمهارة، وهو الشرط الأول لبداية حياة أسرية جديدة، لدرجة أن هذه المقومات المتعلقة بأسباب الحياة تتغلب على معايير الجمال الأخرى التي تُركت لخيالات الشعر والأغاني والأحلام، لكن الحياة اليومية تحتاج إلى أنثى من صنف آخر يتمثل جمالها في الجدارة بأن تبني وتدير بيتا وحياةً برمتها.

كان محصول القمح الموسمي، في ذلك الوقت، مرتبطا بظروف خارجة عن الإرادة، أهمها الأمطار وسقوطها في الوقت المناسب، ولأن سنوات جدب مرت وأدت إلى مجاعات، تغلبت هذه المجتمعات على هذا الخوف بفكرة الفائض لتتحول الكهوف أو الصوامع الحجرية التي نحتها أو بناها الرومان إلى مخازن احتياطي، تحسبا لسنوات الجدب واحتفاظا ببذور كل موسم.

مما سجلته الذاكرة، ذاك الجراب الذي يزنر به والدي وسطه مملوءا بالقمح وهو يبذره بين أخاديد الحقل، عبر ذهاب وإياب مضنٍ خلف محراث يجره جملٍ أو حصان، ينزل عليه ابي بثقله كي يغوص في الترايب مرفوقا بالأدعية المرجزة، وبعد الحرث يصبح التطلع إلى المزن والرعد والبرق هو العمل الوحيد في انتظار أن تتفتق البذورة المدفونة عن براعمها الأولى. وكانت بهجة أبي بسقوط الأمطار تظهر في عيونه الضاحكة وملابسة وأهدابه المبللة، وقبل ذلك كانت أمي تغني مصاحبة لإيقاع الرحى: قمح في خشوم المزن ... منام الرحى جايبلها. وعبر هذا المجاز المُرسَل فهي لا ترى في ذوائب المزن المتراكم في الأفق سوى قمح سيهبط على فراشة رحاها، ما يجسد مقولة "لا تطلب من الغيم مطرا، بل اطلبْ ثمراً" أو تغني: اشبوب بارقه ما بان ... شعيره ملا عين الرحى. (مطر لم يلمع بارقه بعد .. غصت بشعيره عين الرحى). حيث يشكل الشعير رديفا للقمح لا يقل أهمية، وكثيرا ما يعن لي أن أترجم هذه الغناوي الجميلة إلى ومضات نثرية تظل تحتفظ بمجازاتها الجميلة ومعانيها العميقة.

في صباي وبواكير شبابي، كنت أقضي كل الصيف مع الأسرة كلها في حصاد الحقول (القمح والشعير)، ويبدأ موسم هذا العمل الشاق مع نهاية العام الدراسي ولا ينتهي إلا ببداية العام الدراسي التالي، نقضي منتصف الوقت في الحصاد ومنتصفه الآخر في أعمال الدراس والتصفية والتكييس، وكان الحصاد بالمنجل ترافقه أراجيز شعرية محفزة مازلت أحفظها حتى اليوم، وقبل وصول الآلات الحديثة كانت دَراسة السنابل المكومة في هرم كبير(المجرن) تتم عبر الخيول أو الحمير التي نستغرق عدة أيام ونحن ندور بها فوق السنابل المطروحة في دائرة كبيرة لتفصل حوافرها الحبوب عن القشور والحسك، ثم تبدأ مرحلة التنقية وذر الحبوب المخلوطة بأغمادها (التذراي) عبر الاستعانة بالنسيم الخفيف، أو الريح التي يجب أن لا تكون قوية بشكل يجعلها تحمل حبات القمح أو الشعير مع الأغماد، أو بطيئة بشكل لا يجعل القش ينزل مع الحبوب، وهي ما نسميها ريح العون التي كم حمّلها العشاق رسائل إلى حبيباتهم.

كانت تلك السهول والهضاب والشعاب الممتدة على طول النظر تتمايل فيها سنابل القمح والشعير، وكانت كل عائلة من آلاف العائلات تلك، تنعزل بخيمتها في موسم الحصاد، وتربو أكوام السنابل (المجارن) كأهرامات فوق مسطحات صخرية تساعد على الدِراس وجمع الغلة، وكانت عائلتنا فقط تخرج آخر الموسم بما يعادل 500 قنطار من قمح وشعير، ومخزون ضخم من التبن لعلف الحيوانات، نحتفظ بأجود أنواع القمح لاكتفائنا الذاتي من الطحين وببعض الشعير والتبن كعلف للماشية، ونبيع باقي الغلة لنسدد ديوننا من الدكان الذي (نَجرُّ) منه طيلة العام، وكانت مخازن الحبوب أو ما نسميه (السيلس) التي أُنشئت في بعض المدن أو القرى القريبة من هذا الإنتاج تكتظ بمحزون يكفي للاستهلاك المحلي السنوي.

في الخمسينيات وبداية الستينيات كان ميناء درنة ــ كما أخبرني بعض العاملين فيه في ذاك الوقت ــ يُصدِّر القمح والشعير والخرفان، وظلت آلة التصدير المصممىة لنقل الحبوب من الأرضية إلى السفن موجودة قبل أن تصدأ وتُستبدل في منتصف السبعينيات بآلة توريد معاكسة تفرغ الحبوب من السفن إلى أرضية الميناء حين أدى سوء التعامل مع الثروة النفطية، وإغراءات الوظائف المريحة، إلى هجرة تلك الحقول، واستيراد هذه الحبوب في ظل شعار صادح للنظام الثوري الجديد "لا حرية لشعب يأكل من وراء البحر". وكل ما فعله هذا النظام أن جعلنا نأكل كل شيء من وراء البحر، وأصبحت عيوننا مرفوعة إلى السفن والموانئ بعد أن كانت مرفوعة للسحب والبرق في ذاك الزمن الذي كنا نعتبر فيه (النعمة) هي القمح، وكنا نُلقِّط السنابل الساقطة من الحقول المحصودة، أو من دروب شحنها إلى المجارن، باعتبار قداستها لدينا التي تؤثم دوسها بالأقدام، وإذا ما عثرنا على كسرة خبز مرمية كنا نُقبِّلها ونضعها فوق شيء عال كي لا تداس.

ومع الزمن فقدنا هذا الاحترام لما كنا نعتبره مرادفا للنعمة، وفقدنا بالتالي أمننا الغذائي، والقمح الذي كنا نبيعه بالأطنان، أصبحتُ الآن أبحث عنه في المحلات حيث يباع أردأ أنواعه بالكيلو جرام، إذا ما اشتقت لتحميصه في سياق الحنين لزمن كان القمح فيه لامعا بعرق ابي ومصحوبا بأغاني أمي، وكان الخوف من انعدام الخبز في بيتنا غير وارد كما يحدث الآن. ومازلت أذكر الطوابير الطويلة في درنة على الخبز في بداية التسعينيات حين تأخرت إحدى السفن وما أعقبها من اقتحام بعض المخابز والاستيلاء على العجينة لأن الخباز أقفل مخبزه في وجه الطوابير، وفي تلك الفترة كان الطحين المدعوم يباع بمردود أفضل لمربي الأغنام أو الأبقار كعلف، أو يُهرب خارج البلد بأسعار أفضل مما لو حُوِّل إلى خبز.

فماذا حصل؟ هذا سؤال سأقترح بعض إجاباته في المقالة القادمة، وسأختصرها هنا بكون التخطيط الثوري المرتجل والشعاري حلَّ محل التخطيط العلمي المدروس، وأهمية أمن النظام السياسي حلت بدل الأمن القومي الذي يشكل الأمن الغذائي جزءا منه، وتحول الفلاحون إلى موظفين خاملين في الدولة ينتظرون مرتباتهم كل آخر شهر أمام المصارف، بينما كان تأميم القطاع الخاص لصالح قطاع عام فاسد وغير منتج ضربةً قوية لحس المبادرة لدى الناس حين تحولت دولتهم إلى مؤسسة ضمان اجتماعي.

قلت في البداية، لا أعرف لماذا تذكرت في هذا الوقت بالذات حكايتي الشخصية مع القمح؟ لكن يبدو تكرار هذه المفردة (القمح) في نشرات الأخبار، الآن، بشكل ينافس تكرار مفردات النفط والغاز، كتداعيات للحرب الأوكرانية الروسية، هو ما ذكرني بهذه السيرة، وحيث هذه الحرب تهدد أمننا الغذائي بغياب الطحين أو زيادة سعر الخبز، وأصبح المفهوم العصري للجدْبِ غير مرتبط بسقوط الأمطار، بل بسقوط القذائف في مكان يبعد عنا ثلاثة آلاف كيلومتر.