Atwasat

النيهوم منثور الصحافة!

أحمد الفيتوري الثلاثاء 01 مارس 2022, 10:25 صباحا
أحمد الفيتوري

كان النظم في ليبيا عاليا، حيث انتشرت الكتاتيب فالتكايا، وأصاب النثر وباء السجع، وبذا لم يكن للمقامات المقام في هكذا ثقافة، خلال مرحلة ما بعد المتنبي، حتى العصر الحديث. لما نهض الشعر العربي في قصيد الكلاسيكية الحديثة، وعندها مع القرن التاسع عشر الميلادي، انبثقت الصحافة كالفجر، ما فيه تجلى المنثور في جريدة "طرابلس الغرب" 1866م، فغدا المنثور غذاء الناس اليومي، والشعر للمناسبات: الصحافة ديوان النثر العربي.

ومن ذا أصبح صُبح الكتابة الليبية المنثور، ما كان النسج المتين، والعلم المرفوع في الصحافة، كما نجد في مجلة "ليبيا المصورة"، التي فيها للمقالة القلب والقالب، وما عرف حينها بالمقالة القصصية مع مطلع القرن العشرين، ما قرنت بالسرد والسبك، وانتشرت في الصحف عامة والمجلات المختصة.

سباق ساحته الصحف، كان يخوضه النثر، ما بات الفائز في السبق، بفضل أن هناك كتابا، جعلوا من الكتابة النثرية الفن الذي يسلب الألباب، بالتبسيط والحبك والسبك والإيقاع، النثر المنساب المتجلي، ما رمى السجع عنه، هو ما يقرأ القارئ ويطالعه صباح مساء.
ومن ثم السرد، الذي هو النثر في صيغة أخرى، فأمسى القص ثم الرواية لازمة الصحف... ومنذ بزوغ الصحف الليبية كان للسرد المكانة، فنشرت المقالة القصصية فالقصص القصيرة وتوجت الرواية مسلسلة. ذلك إلى جانب ما كان يُترجم من نصوص نثرية، وحتى الشعر تُرجم نثرا، من ذا أضحى النثر ديوان العرب، منذ القرن العشرين وحتى الساعة، وأن بعض الشعراء العرب البارزين نثرهم يضاهي شعرهم.

ولقد بدا أن الكتابة النثر، وأن الكاتب من نثر: "النثر نَثرُكَ الشيءَ بيدك ترمي به متفرقا، مثل نثر الجوز واللوز والسكر."، فكان (أحمد راسم قدري) كاتب "ليبيا المصورة" في ثلاثينيات القرن الماضي.وإني أرى أن الكتابة في ليبيا، أُعيدت صياغتها وكان بيانها جيل 57، أي مع مطلع عام 1957م قد حدثت نقلة نوعية في تلكم الكتابة، التي باتت نثرية سردية، حتى إن القصيدة النثرية بدأت حينها. وإن كان للوطن الشاعر (أحمد رفيق المهدوي)، فإن الناقد (خليفة التليسي) من توج الشاعر باللقب حينها.

طلع الكاتب السارد وكاتب المقال من ثنايات الصحافة، من جعلهُ النثر كاتبا مبرزا: لغة مفرداتها بسيطة أليفة، فالعبارة تتسعُ للمعنى الجلي، وإن ليست لها ذاكرة حافظة فهي سهلة الترديد، وممكن إدراك معانيها وتداول المحتوى، وأنها تغترف من اللهجة المحلية للغة العربية تراكيبها وبلاغتها، وتُعيد إحياء مفردات معجمية لكنها حية ومتداولة في اللهجة والمحكي.

في هذا سيكون نجم النجوم (الصادق النيهوم)، الناثر الكاتب من أسلوبه سيأسر القُراء، ويجعلهم كالمُريدين في (وله) بجملته، ما سيقلدونها وأحيانا يحفظونها كتميمة شعرية، فجملته حيوية رشيقة فيها من الصحافة، والبيان الشعبي، ومن البلاغة الكلاسيكية، وروح الانجليزية المترجمة عربيا، خلائط ومزج وسبك، جعل جملته متفردة، وقائمة في النص، ككائن نابض بكينونته، لكن في سياق النص. وما جذب القاريء، إن الجملة وبيانَها قريبة إليه، وإنها جملته في الآن، وكما تبدو سهلة التراكيب وطيعة، فإنها عميقة المحتوى، ممكنة التأويل، لها حيز، لكن لا يحدها.
الصادق النيهوم كاتب مقالة السرد، المقالة القصصبة، وكاتب قصة سردهُ تقريري، وفي المقالة والسرد، نثرهُ مربوط بالحبل السري لمخيلته: المسافة بين ناتاشا تحتسي الفودكا، والحاجة مْدللة تُعلق: خرفي!، هي المسكوت عنه في الجملة، التي تستفز مخيال القاريء، وتجعله ينقلب ضاحكا. فالتهكم والسخرية هما ما يدس (النيهوم) في نثره، حتى وهو يكتب الجملة: ضرب مثلا أو ما ذهب حكمة. وبهذا أعاد للهمذاني الحياة، وجعل النثر ينهضُ من سباته، فأضحى القاريء يقرأ كما لو كان يتلقى المدون مشافهة. ففي نثر (النيهوم)، ليس ثمة مسافة للغة بين ما ترى وما تسمع، وفي هذا ما يُحيل على نثر (طه حسين) مثلا، لكن نثر (النيهوم) أخف ظلا، وجملته رشيقة لعوب، وصوتها مرئي، وإيقاعها خفيف خفي.

لقد جعل النثر نثر النيهوم والجملة جملته، وحتى المفردات والعبارات التي يغترف من المتداول، تكون كما لم تكن، ورغم أنه يرتكز على التفاصيل والإعادة فالتوكيد، فإنه في هذا كما الكاريكاتيري الفنان (محمد الزواوي) مقتضب مقتر، بحيث إن القاريء يركز على النقطة الهدف، وإليها يصوب القراءة.

إن (النيهوم) كناثرٍ بارز اخترع قُراءهُ، بأن جعل النثر"نَثرُكَ الشيءَ بيدك ترمي به متفرقا، مثل نثر الجوز واللوز والسكر."، وبهذا الناثر ومن مثله، جاء يسعى من المدينة: النثر الديوان الليبي.