Atwasat

(في المنفى) وانسداده

نورالدين خليفة النمر الأحد 20 فبراير 2022, 11:31 صباحا
نورالدين خليفة النمر

ذريعة الأدلجة أسدها بالفلسفة، إذ أكتب فيما أوردته مدونات وصفحات التواصل الاجتماعي معلنة نعي الكاتب وأستاذ الفلسفة الأوروبية المعاصرة، رجب بودبوس .
وأبتديء بتوطئة شارحة للاهتمام بالفلسفة في الجامعة الليبية التي تأسست بعد الاستقلال العام 1955.
 
فالمعروف أنه لظروف تاريخية تتعلق بمشروع نهضة مصر الذي دشنه الحاكم الألباني محمد علي باشا بداية من العام 1882، نالت في أربعينيات القرن الـ20 جامعة القاهرة وفرعاها عين شمس والإسكندرية، قصب السبق في تدريس الفلسفة في مدارس واتجاهات فكرية. فعدا الظاهراتية الهوسرلية التي مثلها اللبناني شارل مالك في الجامعة الأمريكية في بيروت، والفلسفة الشخصانية التي مثلها أواخر الخمسينيات رنيه حبشي في الياسوعية اللبنانية ومحمد عزيز الحبابي في جامعة الرباط المغربية، فإن الاتجاهات الأخرى مثلها المصريون. فكان لها طلاب متأثرون عبر أساتذة مؤثرين تمت إعارتهم إلى قسم الفلسفة بآداب الجامعة الليبية. مثل عثمان أمين الذي عكف على تدريس المثالية ـ الذاتية، التي عبرت عن نفسها مصرياً بـ«الجوانيّة»، فصُير للمثالية مضمون الواقعية الجديدة، وعبد الرحمن بدوي الذي تبنت أطروحته للدكتوراه في جامعة القاهرة «الزمان الوجودي» من الفلسفة الوجودية الأنطولوجيا الهيدجرية المسبقة للوجود على الماهية مقحمة الفلسفة في المشكلة الإنسانية بمحورة الفيلسوف جان بول سارتر الموقفية البشرية على مسألة الحرية.

أول نتاج أدبي أقرأه لـ بودبوس، روايته «في المنفى» الكتاب الوحيد المطبوع له العام 1975 عن مكتبة «قورينا». وكان تحصل بها على جائزة وزارة الإعلام والثقافة العام 1969. اشتريتها في خريف مترب بعجاج القبلي، وقرأتها بعد فراغي من الامتحانات. نفهم سردية المنفي بضمير الكاتب، عندما نموضع الرواية في النزعة الوجودية المسبقة الوجود على الماهية، وننسبها إلى محاضراته في نوادٍ رياضية كـ تبسيط الفلسفة بنادي الأهلي، والفلسفة القورنائية بنادي التحدي بحي الصابري الشعبي، وتحليل مفهوم الحرية ربما في مدرج رفيق. إضافة إلى كتاباته في مجلة «قورينا» وترجمة مسرحيات عن الفرنسية وتأليفها منها «إعلان الرفض، والبيت العتيق، واللعنة، والسقوط»؛ وأيضاً مقالاته في صحيفة الحقيقة: «المسيح من خشب، والبنغازية الحزينة»... إلخ.

لاأنكر أني قرأت لرجب بودبوس قبل التحاقي بقسم الفلسفة بآداب بنغازي خريف 1974. لأن أغلب منشوراته، كما أسلفت، مقالات وترجمات عن الفرنسية لمسرحيات في مجلة «قورينا» الصادرة عن كلية الآداب وقتما كان طالباً بها 1965 - 1968.

تتلمذ رجب بودبوس على دروس بدوي، طالباً في السنة الرابعة، ثم معيداً لسنة إلى حين ابتعاثه لفرنسا لتحضير درجة الدكتوراه التي أنهاها العام 1977. تأثير سارتر عبر بدوي الذي ترجم له كتابه «الوجود والعدم» نلحظه في المسار الأكاديمي للطالب رجب بودبوس في فرنسا: في رسالة ماجستيره عن «التخيل»، ولسارتر كتاب بهذا العنوان، و«أنطولوجيا الحرية» رسالة دبلوم الدراسات المعمقة، و«الحرية» رسالته لدكتوراه الحلقة الثالثة.

بالعودة إلى أكتوبر 1969 بعد شهرين من الانقلاب العسكري الذي أطاح الملكية. انطلق العام الدراسي في الجامعة الليبية، كمعتاده، بنشاط الجمعيات الطلابية. فألقى المعيد رجب بودبوس محاضرة بعنوان «محاولة في علم الثورة». نشرها في أول عدد بعد التغيير أكتوبر - نوفمبر من مجلة «قورينا»، وكان من المشرفين على تحريرها واحتوى العدد أيضاً مقالة ثانية له عنوانها «عرض النظرية في الثورة». فيما حدثني به العام 1975طالب من قسم اللغة الفرنسية عاصره. أن هذا النشاط الإيجابي لبودبوس لم يزح الصورة المثبتة عنه كونه الوجودي السارتري الذي صار تداول اسمه وأفكاره بعد الثورة الثقافية 1973 ممنوعاً. وهذا ما لمسته أيضاً وأنا أقرأ روايته «في المنفى» مع الفارق المكاني بنغازي ـ باريس بطعم رواية «الغثيان» لجان بول سارتر. ومع بداية العام الجامعي 77 ـ 1978 لمحت في رف الفلسفة بالمكتبة المركزية للجامعة الترجمة البيروتية سلسلة كتب مواقف لجان بول سارتر عليها ختم إهداء من المكتبة الشخصية لرجب بودبوس.

عبد الرحمن بدوي الذي درس المثالية الألمانية والفلسفة الحديثة والمعاصرة بكلية الآداب الليبية 1968 ـ 1973 عُرف عن طريقته اعتماده أسلوب الأستاذ المُرسل الذي لا يفترض طالباً يستقبل درسه ويناقشه في موضوعته أويسأله. فطلابه تلقفوا أفكاره وتوجهه الوجودي عبر مؤلفاته الغزيرة تقريباً في كل فروع الفلسفة.

في محاضرته الأولى لنا، طلبة السنة الرابعة، في مادة نقد الفلسفة الغربية المعاصرة، لحظت على الأستاذ بودبوس أنه يحاضرنا وكأنه يكلم نفسه. هو الصوت وصداه. ولكن هذا لم يمنعني في الأسبوع الثاني، من أن أتأبط روايته «في المنفي» وأطرق باب مكتبه لأبدي له ملاحظاتي التي دونتها عنها. شعرت بحرجه، وعدم رغبته، وتفهمت تعلله بعذر ليصرفني عنه. بعد امتحان الفترة الأولى طرقت باب مكتبه لأستلم نتيجة الامتحان، فأمطرني بملاحظاته المفندة لإجابتي عن سؤاليه في نقد الفلسفتين الظاهراتية والوجودية، التي اعتمدت فيها على كتابي بدوي «مقدمة في الفلسفة المعاصرة» وبوخينيسكي «الفلسفة المعاصرة في أوروبا» نشرته دار الفرجاني الليبية بترجمة ع.الوافي المتحول للتاريح الذي أهلاه الأستاذان المصريان عبد الهادي أبوريدة وعثمان أمين بقسم الفلسفة في دفعة سابقة.

بدا لنا بودبوس من أكتوبر 1977 إلى أبريل 1978 أستاذاً عادياً، مكتفياً بإلقاء محاضراته الروتينية، وفي ما حدثنا تقديم استشارات معتمدةً النفسانية السارترية للقائمين على مستشفى الأمراض النفسية ببنغازي. ولاحظناه متوجساً، حذراً حتى مناسبة الذكرى الثانية لحدث السابع من أبريل العنفي، إذ أُقيمت إلى جانب الاحتفالات، ندوة ليوم بحضور الزعيم القذافي ممهدة لصدور الفصل الثاني من «الكتاب الأخضر» لحل المشكل الاقتصادي. في الأسبوع التالي للندوة، بعد المحاضرة، أخرج من حقيبته نشرة صدرت في شكل جريدة بالمناسبة. واقترح علينا أن يخصص المحاضرة القادمة لمناقشة مقال وارد بالجريدة حول الأجرة والشراكة . فتعللنا بضيق الوقت، وفضلنا أن تخصص المحاضرتان المتبقيتان من العام الدراسي لمراجعة المنهج، وما هو المقرر منه في الامتحانات .
في العدد الفصلي بالخريف لمجلة «الفصول الأربعة» نهاية العام الدراسي 1978، لمحت مقالة ممهورة باسم الكاتب رجب بودبوس تحت عنوان «الحاجة والحرية» ستكون في مستقبل الأيام، فصلاً من كتابه في «الحل الاشتراكي» الصادر العام 1982عن المركز العالمي للكتاب الأخضر في سلسلته الفكرية العقائدية في النظرية العالمية الثالثة.