Atwasat

هكسلي: حلاج الأدب الغربي (3-3)

عبد الكافي المغربي الخميس 20 يناير 2022, 10:30 صباحا
عبد الكافي المغربي

في هذا الجزء المكمل لمقالنا عن أدب وفلسفة Aldous Huxley لا نقصد إلى تلخيص روايته الأشهر، فهذا من شأن عرض بسيط للكتاب، إنما النقد يوظف أدوات البحث الأدبي المتوفرة ويقصد من خلالها إلى تقصي أفكار الكاتب وتوضيح كيفية استجابة القراء لأعماله المتضمنة إياها، وهذا بالضبط ما نسعى إليه، مستعينين بشواهد من الرواية تؤيد معالجتنا هذه.

ينجم عن العودة إلى لندن تقلبٌ في هوى لينينا من برنارد إلى جون، وهو في أول أمره فضول واهتمام مهووس بالطاريء على وعيها، ببربريته وأجنبيته، وهو ميل لا يكاد يفترق عن تشييء الإنجليزيات لبطل الطيب صالح. إلا أن لينينا سرعان ما تشغف بالفتى، على جهل منها بأنه كذلك غدا ينطوي لها على حب عميق تغذيه رومانسيات شكسبير. وبينما تنصرف ليندا عن مجتمع متحضر يستنكر عجز الشيخوخة وتغضنها إلى جرعات السوما المخدرة التي لطالما اشتاقت إليها بمثل الشدة التي أخذت تنعى بها ضياع الشباب الدائم إلى ساعة الموت بفضل عقاقير Brave New World، لا تلبث أن تنشأ عن الصدام مع لينينا وحقائق الواقع السياسي خيبة جون الهمجي الشديدة مع عالم أمه.

جون يحب لينينا، ولينينا تعبده، لكن يُلهم جون عشق أدبي محروم، ولينينا تفصح عن حبها إفصاحاً صريحاً وتريد أن تخلع ملابسها وتمنح جسدها لجون دون مقدمات، وهي ضحية التشريط والإيعاز المبكر. وفيما يغادر جون غرفة موت ليندا بالمستشفى مغضباً لاستخفاف المتحضرين بسر موتها، حين يصطدم بعمال الدلتا ويتلف نصيبهم من جرعة السوما، مناشداً إياهم الوعي والثورة، وتكاد الجموع التي لا أمل فيها تفتك به وبصديقه هلمهولتز، تنقل شرطة حاكم أوروبا الغربية التي قلما يستعين بها الرفاق الثلاثة، جون وبرنارد وهلمهولتز، إلى مكتب مصطفى موند لتحديد مصيرهم بعد هذا التجاوز الخطير، ويلي الجدل الأبرز الذي يبرر فيه مصطفى عدالة موقف Brave New World أمام هجمات جون التي تسعى إلى استنقاذ فردانية الأفراد ووعيهم الخاص.

لم يكن مصطفى موند نفسه من صنف القادة الطغاة الذين يضعون موقعهم فوق كل اعتبار، وكثيراً ما نجده في الرواية يطلق آهات الحسرة على تضييقه «الضروري» على العلوم «الحقيقية»، وعلى ما ضيع من آمال شبابه أن يأتي بكسب علمي كبير ويحاط برفقة عالمة مثقفة. ولم يعاقب موند أولئك الذين اضطروه إلى استعمال جهاز شرطته بالذبح، كما يعلق ساخراً على رعب برنارد من المصير الذي ينتظرهم، ولكنه سيتفضل عليهم بإرسالهم إلى جزيرة من أرض الشمال حيث ينفى الآلف الطامحون إلى أبعد من الأبهة والسعادة ومن المتعة الجنسية، حيث يمكنهم ممارسة أنشطتهم الخطيرة بحرية مطلقة، بما أنه لا يمكنهم الإضرار بالمجتمع الطبقي لـ Brave New World. والحق أن جدلية مصطفى موند لصالح العالم الذي يقوده جد معقولة. فليس هلمهولتز شاعر عصره مهيّأً أن يلمس آية أدبية في معالجة شكسبير لعذابات روميو، أو ضجة عطيل، كلا ولا يمكن لهذا العالم أن يضحي بمكاسبه التي تجيب كل الرغبات الإنسانية التي تحلق إليها خواطر الأغلبية الساحقة من البشر. ككل الملوك الفلاسفة مصطفى مستنير، رؤوف، يحتفظ بآداب تولستوي وشكسبير ورسائل روسو والفلسفة الشرقية في مكتبته السرية، ويسهر على استقرار العالم وراحة مواطنيه، ويسخر إمكانات التقنية لئلا يشعر المظلومون بظلمهم.

مصطفى يجادل بإقناع أن هذا كان هو الحل الوحيد لمآسي المآسي منذ الأدب الإغريقي، وأن طموحات الفرد لا بد أن تختزل في المجموعة الغالبة لتفادي النزاعات. وهو يمنح بسخاء من وقته لمحاورة جون الهمجي في شكسبير وحول برنامج جون لعالم غير مثالي.

وجون الذي يروض نفسه إلى حد لا ترتاح له ذائقتنا وعقليتنا، لخلاص فردانيته والتكفير عما تصوره من ضلوعه في موت أمه، يقول لمصطفى حتى ينهي حديثهما: «لكن أنا لا أريد الراحة، لا أريد السعادة، أنا أريد الشعر، أريد الله، أريد الخطر، أريد الخير، أريد الخطيئة». جون يريد كل ما يجعل عالمنا غير محتمل لأنه لا يجد في عالم اليوتوبيا ما يجعله محتملا.

ويصعب أن يكون جون البديل المقترح عند هكسلي. ولقد كان يود أن يلتحق بصاحبيه برنارد وهلمهولتز في جزيرتهما الطوباوية، لكن الحاكم استبقه رغما عنه لتقديم خبرة تجريبية نادرة. وإن كان قادراً على التملص من قبضة الحاكم وشرطته واتخاذه من منارة عتيقة وسط البرية ملجأ، فقد برهن على تسلط أهواء أمه التي اخترقت وعي طفولته على رشده بشراء شيء من بضائع لندن الممجوجة. ونصيبه من إعجابنا أقل من ذلك إذا رأينا إليه وهو يعذب نفسه ويحملها تبعات حب لينينا «الآثم» له، وهذا أدعى إلى أن تثير عجب سائق الشاحنة الدلتا الذي رآه يجلد نفسه، وأن تجعل من تصوير فيديو متجسس له وهو يمارس هذا الطقس حديث إنجلترا. وفي ذوبان جون في القطيع وحين يأخذ بضرب لينينا بالسوط التي جاءت بمروحيتها لتنقذه من توافد الجموع على عزلته، وانتحاره الأخير، أفضل مناسبة للبحث عن رسالة هذه الرواية.

في مستقبل مهنته كأديب ومفكر، تبرم Aldous Huxley مراراً من ميله الواضح في روايته عن تقديم بديل معقول من بين العوالم الثلاثة، عالم Brave New World، والعالم الذي يحتله جون الهمجي، وعالم الهنود البدائيين، وعزا ذلك إلى أنه كان شاباً متشككاً وضع الجمال فوق كل اعتبار عندما قدم تحفته الأدبية. ويمكن القول حقا أن الشيء المعقول الوحيد الذي قام به جون الهمجي هو الانتحار، فلقد أبى هو على نفسه حياة تأمل روحي مسالمة، وأهل لندن كانوا يدفعونه إلى طريق الجنون باحتلالهم مكان عزلته، بمثل ما كانت عشيرة أوكونكو في رائعة الأديب النيجيري Chinua Achebe خليقة بدفع البطل إلى الانتحار. يقطع موت جون في عالم Brave New World طريق تعفنه الروحي، ومثله عرف الكاتب في قصة همنغواي «ثلوج كلمنجارو» في الموت السبيل الوحيد لإنقاذ نفسه من فقر الغنى في الإبداع الأدبي.

في اتهام جون الهمجي للعوالم الثلاثة، ثمة شواهد على أن رواية الجزيرة، أنضج وآخر أعمال هكسلي، وكذلك أقلها قيمة فنية، قد ظهرت للوجود لنلتمس تصوراً لحياة إنسانية مجزية وخليقة بأن تعاش.

لم يكن هكسلي أول المؤمنين بوحدة الوجود، وبإمكان أن تكون ثمة حقائق مطلقة وسلام روحي في العالم الغربي، وإن كان من أبرزهم في ميدان الأدب. وكان مثل الحلاج صوتاً معارضاً لمادية وشهوانية عصره، مستهدياً مثله في مهنته الناجحة بتراث الفلسفة الشرقية. وكما أن أفلاطون استخدم الجمهورية الفاضلة كمثال يهدف منه إلى تقريب دلالات الجدلية نفسها على الحقائق المثالية التي يريد إثباتها، فقد سخر هكسلي مجتمع Brave New World للتعبير عن قلقه الروحي وللتحذير من الرقابة التي تمارسها مادية جامحة على خياراتنا الخاصة بأن نحيا حياة فريدة. العدالة تبدأ عند هكسلي بإصلاح الأفراد، وفي الجزيرة تبدو محاولة التوفيق بين تراث الشرق وعلم أوروبا ماثلة بكل جلاء، وهو طموح رسم خطوطه العريضة في مجموعة مقالاته «Heaven and Hell». الجزيرة تفضي إلينا برسالة واضحة مفادها أنه ألا حرية مضمونة فيما يتم حشد الأفراد في مجموعات متناغمة، دينها دين قادتها، وأن الجرعة السنوية المهلوسة التي ابتكرها علم جزيرة المحيط الهندي الطوباوية تملك تعزيز الصفاء الروحي وأن تلهم تأملات روحية على امتداد العام حتى لا يقدر لها أن تكون مَهرباً قابلاً للإدمان مثل مخدر سوما في Brave New World. في الجزيرة يمْثُل مجتمع صالح متضامن يرعى الإبداع ويحرس الفردية، يجمع إلى تراث الشرق علم أوروبا.

_____________________________

- مقالات الكاتب: عبد الكافي المغربي