Atwasat

السيرة الذاتية الليبية

أحمد الفيتوري الثلاثاء 16 نوفمبر 2021, 09:59 صباحا
أحمد الفيتوري

1-
السيرة الذاتية، تكون على الحافة، فهي ليست عملا إبداعيا، ولا كتابة تاريخية، وقد تجمع بين هذا وذاك، خاصة إذا ما كانت سيرة غيرية، فحين يقوم الكاتب بإنجاز سيرة الآخر، تلبس ذاته روح الباحث والمؤرخ. وفي ليبيا ظهرت سير ذاتية عدة، منذ النصف الثاني في القرن العشرين، وقد لفت نظري: "وقدات" السيرة الذاتية لعبد الله القويري، و"غوما" لعلي مصطفى المصراتي، ما اعتبرته سيرة غيرية.

علي مصطفي المصراتي وعبدالله القويري، تقول سيرتهما الذاتية أنهما: ولدا في المهجر، ودرسا وعاشا، في أجواء ليبية شبه مغلقة، في مهجر المضطر، من أثر العدوان الفاشي على البلاد، وعلى مدينتهما المشتركة مصراته. ومع ملاحظة الفروق، بين هذين الكاتبين، في الكثير من المعطيات، فإن لازمة كليهما الوطن / ليبيا. المصراتي سيعرف كمحقق وباحث في النتاج الثقافي الليبي، وصاحب منزع موضوعاتي، والقويري كاتب السردية والحواريات، صاحب المنزع الذاتي المثالي النظرة، وإن كانت ثمة التباسات، تدحض هذا التوصيف الصارم، فإنها لا تلغيه بأى حال.
من مجمل نتاج الكاتبين الغزير، أقترح كتاب "غوما" للمصراتي، وكتاب "وقدات" عبد الله القويري، الأول فيما يبدو لى، سيرة ذاتية للزعيم الليبي، فترة الحكم العثماني الثاني، غومة المحمودي، فيما الثاني سيرة ذاتية للكاتب عبد الله القويري، على الغلافين لا يقدم المؤلفان، تجنيسا ما، أو شكلا من أشكال الاصطلاح البحثي: الوقدات وقدات وكفي وغوما غوما فقط.

لن نستنطق نص "غوما"، لأن هذا النص يعرضنا هو لاستنطاقه، فمن مجمل ما ينطق به، الأجواء الفيزيقية ومشوبها على النفس، ومن هذه تنبجس حالة نفسانية وظلال هذه الحالة، التي تشتد وتتوضح من خلال بنية النص، مضافة من تخيلات الكاتب، الكاتب الذي يرقب ويجس شخصيته غوما، وما يجول في خاطرها، من خطرات وتغضنات، تشكل الوجه وتحفر في النفس. معالم لا يرصدها، حتى معايش للشخصية التاريخية [غوما المحمودي]، التي يوهمنا النص بأنه باحث مدقق في تسجيل وقائعها.

إن الوقائع المسرودة، تضلل القارئ لتقنعه، بالشخصية التاريخية "غوما المحمودي"، من نعرف عنها النزر القليل، هناك رصد للنفس ولحالاتها، ومخيلة عابثة تستهدف التضليل والخديعة، فـ "غوما المصراتي" في المحصلة، "غوما تخييل". تبدو هذه الوضعية التي أصف، حافلة بالمفاجآت، لكن المصراتي ذاته، يتفاجأ بهذا التوصيف، لأنه أبدع شخصيته وظللها، لتنفلت منه وتبدو روائية. المصراتي هنا كاتب سيرة ذاتية، ضمير المتكلم يلجلج في صدر ضمير الغائب، والسيرة الذاتية هذه ليست تأريخا، لشخصية غوما المحمودي التاريخية، لكنها توكد بكيفيتها هذه الشخصية التاريخية، وكتابة كهذه، لا تلغى التناقضات، بل توكد عليها وتستحثها. ومن هذا كأن هذه السيرة هي السيرة التي يفترضها المصراتي لـ "غوما المحمودي"، الشخصية التي نعرف إلى حد ما، وعليه يفترض أنها وثيقة بمعنى ما، رغم ما في النص من التباس الشعري، ففي هذه السيرة من الوقائع والتوثيق، ما يظهر المصراتي الباحث، لكن هذه والثائق والوقائع، اختارها وأعاد توظيفها الكاتب، لخلق شخصية غوما كما يراه وليس كما هو. وهذا ما يحدث عند كل كاتب لسيرة غيرية، بهذا نتبين أن التخييل هنا محدود، ويخدم مرجعيات الكاتب، على عكس الأدبية في الكتابة السردية، التي تجعل من المرجعية، في خدمة التخييل وانزياحاته، فالمدلول في هذه الكتابة انحراف عن الدال.

لسيرة غوما، كما مثيلها منطق، هو منطق "الـ يمكن أن يكون"، وهذا ما يسمى في الحداثة المنطق الاحتمالي، ومن الـ "يمكن أن يكون"، يستقبل تجربة المتأبي على الحساب، متأب على الحساب الجذري. حتى وإن تطلبت، المسؤولية القانونية والأخلاقية والسياسية بعد ذلك، أن يكون تفاوض، وإذا حساب وتقدير للمتأبي على الحساب. وفقط بالدخول، في الما بين من هذين المنطقين، منطق القابل للحساب، ومنطق اللا يمكن أن يكون، يمكن التعرف ربما، على الما بين الذي يهمنا هنا، أو كما في منطق دريدا. هكذا في تقديري، يمكن تفكيك التماهي، الظاهر بين الكاتب، والسيرة التي يكتب، في حالة كهذه، من جهة ومن جهة ثانية، يحتمل ذلك فك هذه الكتابة، من اشتباكها في الكتابة الأدبية المحضة، على الخصوص الكتابة السردية.

2-
هكذا يكون، المقصود بالسيرة الذاتية، محكيا يلخص حياة ما، كما سوف نرى، في "وقدات" سيرة عبد الله القويري التي كتبها عبد الله القويري، من انشغل كثيرا بكتابة سيرته. وقد ظهر جزء من السيرة في كتابه " أشياء بسيطة "، ثم في "وقدات"، وفي الحوارات التي أجريت معه، مثل ما جاء في كتاب "عبد الله القويري مفكر يبدع في الأدب والفن".

وهذا الانشغال بالذات وسيرتها، يكشف على مستوى بنية النص، التطابق بين المؤلف والسارد والشخصية، وأن السيرة مكتوبة من طرف المعني، ومكتوبة في شكل بسيط، وتستعمل مثل هذه الكتابة، من أجل أغراض متباينة. فالحديث عن الذات، يمكن أن يفيد، إما كبرياء متضخمة، وإما نوعا من التواضع، وفي كلتا الحالتين، ينظر السارد إلى الشخصية من مسافة، ويقحم في حكيه، تعاليا يتطابق معه، في نهاية المطاف.

يفتح القويري كتابه، ويوقظ وقداته بهذا: ستظل هناك، في نفوسنا، أشياء غائرة، أشياء لا ترى، ونأخذ النزر اليسير منها، ونتدلل به على الغير، نقدمه إليهم، وعندنا شعور، بأننا نمنحهم البركة. وفي حوار عبد الله القويري أو منولوجه المستدام / المستلاذ: هل سأذكر كل ما أتذكر، وهل سأجد الشجاعة على ذلك؟، وجدت من الشجاعة أن أكون متفردا.

- قال وليم: أنت مثالي ، وفردي.
- قلت: وماله. كنت ذلك الحزين الدائم، قليل الأمل كثير الألم. كنت طفلا كبير الجسد تاه طويلا، ثم فجأة وجد نفسه في بيته، في وطنه.
- وعن سبل كتابته لسيرته يقول: أنا مضطر لأصطنع بعض الحيل الفنية.

قد تكون هذه الحيل، لعبة للتنصل من تماهي الذات والنص، وقد تكون من ناحية أخرى، حصيلة ايديولوجيا سائدة: السيرة الذاتية، تلخصها الجملة المعتادة، أنا الموقع أدناه، والتحرز الايديولوجى، المعتاد في هذه الحالة، جملة "أعوذ بالله من قولة أنا"، فيقول عبد الله القويري "ليست سيرة ذاتية، وإن اتخذت من ذكريات حياتي منطلقا لها، إذ لم نتعود الصراحة، في رواية ما يتصل بأشخصنا، وإذا كان هناك، من عنده الشجاعة، في أن يفعل، فليس هناك من يقبل منه ذلك".

فتكون الحيلة، في مواجهة هذه القولة، بتستر الذات بضمير الغائب، كما في بعض السير من آخرها "مسارب" أمين مازن، أو لإخفاء المتجلى، في التماهي بين الذات والموضوع، حيث "وقدات " سيرة ذاتية، يتمرأى فيها الموضوع، من خلال الذات، فالوطن في هذه السيرة هو الذات، وأحيانا لا يطولها "كانت الروح في إشراق دائم ، وحالة الاستكشاف، هي حالة النفس البدوية التي لا تخنع، فليس عندها، إلا الحركة الدائمة ظاهريا وداخليا"، وفي هذه السيرة، يتم النسج على هذا المنوال، "كنت كالمحمول إلى حتفه. أتحرك من مكان إلى مكان، أقف بين الحين أستمع لما يدور، ثم أدور، فلا أسمع غير الهمهمات، لم أكن مثلهم، فقد جلست داخل ذاتي منذ زمن.".

إن مبررات، كتابة السيرة الذاتية عند القويري، مبررات ذاتية، حديث الذات المحبوسة، منولوج، فهذه الذات المحصورة، تفكك مكونها، بالانفلات من كل حد، لهذا انشغل الكاتب بالكتابة، عن هذه الذات، حتى تتحقق هذه الذات موضوعيا. هذا التحقق العاري، الذي لا تمنحه أي كتابة أدبية، تشدها قوانيها الداخلية، كما تمنح شذرات، تكيفها المخيلة، لمقتضى الكتابة النوعية. لقد وجد القويري، في كتابة السيرة، آلة تدوي بمكنون الذات، سبيلا للبوح، كما تجد الأنوثة المقهورة، في النواح فصاحة للمكبوت. ولأنه من المستحيل، أن نقول الحقيقة حول الذات، أو أن نتكون باعتبارنا ذواتا كاملة، ومن ثم فالسيرة الذاتية، هي ذلك العمل المستحيل.

وكان عبدالله القويري، جديرا بفعل المستحيل هذا، فكانت سيرته الذاتية، سيرة التميز، تشف عن خفياها، كما تطرق موضعة، غربة الذات الوجودية، الذات المفردة بصيغة الجمع، فاضحة كل قولبة ممكنة وغير ممكنة، متعالية في فصاحة النسر: "هنا تتعالى دوحة النفس، فلنبن لنا عشا، بين أغصانها، فتجيء إلينا العقبان، حاملة لنا الغذاء، نحن المنفردين" كما قال نيتشة.