Atwasat

سوء الطوية أو السؤال المشحون

سالم العوكلي الثلاثاء 26 أكتوبر 2021, 11:48 صباحا
سالم العوكلي

أرحب بكل مناقشة لما أكتب أو تعليق، كما أسعد بأي تصحيح لأخطاء أرتكبها، أو لفت نظري لزاوية أخرى غائبة عما اعتقدت أني أحطت به، لكن بالتأكيد لا أرحب ولا يسعدني أن تُقوّل مقالتي ما لم تقله أو تناقش وفق التخمين بما لم يرد فيها، وأنفر من قراءة النوايا، أو وفق الأحكام المسبقة، أو القراءة التي يحكمها سوء طوية bad faith (سوء طوية كمصطلح فلسفي).

وفي هذا السياق سيكون ردي على مقالة الصديق عمر الككلي "دعوة إلى نظام شمولي؟!" التي يناقش فيها مقالتي "الانتخابات.. الانتخابات". المنشورتين تباعا بموقع بوابة الوسط.

أولا: تُعنون المقالة بصيغة الاتهام نفسه "دعوة إلى نظام شمولي؟!"، ووضع علامة استفهام خلفها يعني أن العنوان في صيغة سؤال، ووضع علامة التعجب يعني التعجب من الإجابة المشحون بها السؤال. وهذا النوع من الأسئلة يقع في دائرة أغلوطة السؤال المشحون، وهو سؤال غير بريء "يتضمن افتراضا باطلا أو خلافيا أو يصادر على المطلوب." مثل "في أي وقت تعاملت مع المشبوه؟" في حالة التحقيق الجنائي، ومثال آخر، قلت مرة في إحدى الندوات أن الديمقراطية يستلزمها دستور علماني، فرد مجادل في صيغة سؤال: هذه دعوة للمثلية؟.

وهي الأسئلة الجدير بأن تنتهي بعشرات من علامات التعجب من السؤال نفسه.

طرحت في المقالة سبعة أسئلة، لم يناقشها الككلي أو يجيب عن واحد منها، لكنه صاغ سؤاله الافتراضي الخاص وجعله عنوانا للمقالة، وجيّش من أجله (المثقفين الوطنيين) كي يناقشوا المقالة انطلاقا من هذا السؤال المشحون الذي أجاب عنه في نهاية المقالة، بإضافة فعل "يشعرني".

الذي يضاف إلى الفعل "يضمر" كأفعال حدسية، وهذا ليس من عادة الككلي في الكتابة العقلانية التي يحرص على أقصى حد من موضوعيتها ونزاهتها، كما عودنا دائما.

يرد في المقالة: "مقال العوكلي هذا يشعرني بأنه يضمر دعوة إلى قيام نظام شمولي استبدادي، شريطة أن يكون قيادته من جهة محددة من جهات ليبيا، وليس من أية جهة كانت."!!!. وهذا الحكم (التهمة) جاء بعد اقتباس عدة مقاطع من مقالتي تؤكد أن "الانتخابات مهمة، ولا سبيل لنيل الشرعية سواها" وأن الحديث كان عن تشوه بعض الديمقراطيات، ولا أعرف كيف وصل صديقي عمر إلى هذه النتيجة.

لأن انتقاد الطريقة التي تستورد بها لقاحات كورونا، مثلا، أو طريقة تخزينها أو توزيعها أو استخدامها في الدول المتخلفة، لايعني رفض فكرة اللقاحات من الأساس".

أما قوله "من جهة محددة من جهات ليبيا" فلا يحضر أي مجاز أو حتى استعارة أو تورية، أو ما يشير من بعيد أو قريب إلى هذه التهمة، ولأني أعتبر الكتابة عن االمضمر نوعا من خبث الحوار، أو ما يسمى الضرب تحت الحزام، سأتوقف عند الفعل اللعين الذي استخدمه الككلي "يضمر" والذي يقع في سياق قراءة الضمير أو النوايا بغض النظر عن المكتوب أو سيرة صاحب الكتابة، وأقول ملعون لأن هذا الفعل نفسه كان وراء أن يدفع الككلي ثمنا باهظا من سنوات عمره في السجن دون تهمة واضحة تحددها كتاباته أو سلوكه، لكن المحققين حكموا عليه وعلى الكثيرين وفق هذا الفعل: يضمر إنشاء جزب مثلا أو التآمر لإسقاط النظام. ما يجعله في سياق الاتهام فعلا فاشيا بامتياز.

ثانياً: ثمة آليتان خطيرتان في مقالة الككلي، هما التقويل ثم التجييش، بمعنى أن يُقوّل المقالة ما لم تقله، ثم يُجيّش الآخرين للرد من منطلق هذا التقويل، وفي هذه الحالة جاء التجييش قبل التقويل لأن ما يرسخ في ذهن القارئ عادة هو خاتمة المقال، يقول الككلي "لذا أتمنى من المثقفين الوطنيين الجادين أن يعقدوا العزم على مناقشة هذا المقال في محاولة لسد التفرعات والمسارب المنبثقة عنه". لن أُركز على أن جملة "يعقدوا العزم" إحدى الجمل التي تكررت في خطابات تحشيد تعبوية سابقة لأن اللغة في النهاية ليست ملك أحد؟. لكنها، بصراحة، استفزتني بنبرتها التحريضية العالية.

ثالثاً: كان تحذيري منطلقا من كون هذه الانتخابات المزمعة لا تتوفر لها أسباب النجاح، سواء تمت أو لم تتم لن تحل المشكلة الأكثر تعقيدا من ذلك، رابطا جدواها بملاءمة البيئة التي تجرى فيها وبقبول النتائج، وهذا غير متوفر حتى الآن لأسباب ذكرتها، واستعنت على إثبات هذه المخاوف بتجارب دول كثيرة تمارس الانتخابات فيها منذ عقود وبإشراف دولي دون أن تتحسن أوضاعها، أو تتحقق فيها حريات، أو توقف فيها الحروب الأهلية والدموية على السلطة، وهذا أمر يمكن متابعته حتى الآن في نشرات الأخبار بسهولة، لأن الانتخابات فيها تُجرى في ظل ظروف غير حاضنة لمبدأ الديمقراطية: ميليشيات متحكمة، أو استقطابات حادة وصراعات جهوية أو مذهبية، أو اقتصاد ريعي، أو قاعدة دستورية غير ملائمة، أو فساد متفشٍ، أو غيرها مما يجعل الانتخابات بابا يدخل منه الطغاة إلى السلطة، أما موقفي من الحكم الشمولي، سواء كان عسكريا أو مدنيا، فعبرت عنه في المقالات والشعر والرواية والعمل المدني منذ عقود وليس بعد فبراير فقط.

رابعاً: لم أرفض الانتخابات مطلقا، ولكني شككت فيها والتشكيك في أي انتخابات، قبلها أو بعدها، أمر تضمنه العملية الديمقراطية، ولا يعني أبدا الدعوة إلى نظام حكم شمولي، بل ربما تعني الدعوة إلى عدم إفساح المجال لوصول حكم شمولي عن طريق االصناديق، والأمثلة كثيرة في التاريخ.

وحدث مثل هذا التشكيك المسبق حتى في الولايات المتحدة في الانتخابات التي يستعان فيها بنظام الاقتراع عبر البريد، مثلما يشكك الكثيرون الآن في قانون الانتخابات نفسه وآلياتها التي من الممكن أن تضع في يد شخص شعبوي، أرعن وعنصري، مثل ترامب، على مفاتيح شفرة استخدام السلاح النووي.

خامساً: الخطر لا يأتي من كاتب ينتقد النظر إلى الانتخابات كمظهر وحيد للديمقراطية أو يشكك فيها كإجراء تقني مفصول عن بيئته الثقافية، ولكن يأتي من قاعدة عريضة ممن يحق لهم الافتراع أصبحت تكفر بالديمقراطية من أساسها وتدعو إلى حكم شمولي بعد أن خانت الانتخابات المشوهة والمتوالية أحلامها بدولة ديمقراطية مع انتشار الفساد والخوف، فلا أنا ولا الككلي من الممكن أن يغير ما يجري على الأرض، لكن الناخبين، ونحن جزء منهم، ممكن أن يغيروا، غير أن معظم هؤلاء الناخبين بدأ يراودهم الحنين إلى (الحكم الشمولي) بسبب إخفاق الانتخابات المتوالية في تلبية أحلامهم، ولعل تراجع نسبة عدد الناخبين المشاركين في الانتخابات بعد ثورات الربيع العربي مباشرة من أكثر من 80% إلى أقل من 30% في الانتخابات الثانية يؤكد هذا الخطر الذي تتعرض له الديمقراطيات الناشئة.

والدفاع عن انتخابات تفضي إلى هذه النتيجة قد يؤدي إلى نتائج معاكسة تماما، وقد يأتي بنظام "لا ديمقراطي" ليس بالضرورة أن يكون على رأسه أخ أو ابن الصديق عمر الككلي.

بالإضافة إلى أغلوطة السؤال المشحون، يمكن ذكر بعض الأغاليط التي وقعت فيها مقالة الككلي، والواردة تحت عنوان "تشتيت الانتباه"، في كتاب "كتاب الأغاليط" لمؤلفه نجيب الحصادي الذي يصادف أني أقرأه الآن. (مع ملاحظة أن استخدام مفردة (الخصم) هنا تعني الطرف الآخر في الجدال لا أكثر).

أغلوطة التفكير الرغبوي: أرغب في أن تكون س صادقة، ولذا فإن س صادقة .

الأغلوطة الشخصية: وتقع حين تعد ظروف شخصية محيطة بالخصم، لا علاقة لها بموضوع الجدال، دليلا ضد موقفه. بمعنى، كاتب المقالة ينتقد الانتخابات وهو من الشرق، إذاً يدعو لحكم شمولي يكون على رأسه شخص من الشرق.

أغلوطة تسميم البئر: هي "أن تقوم عبر حجة إضمارية بهجوم استباقي ضد خصم مجادل، وكما هو الحال في الأغلوطة الشخصية، قد يسمم البئر بطريقة مسيئة وظرفية".

أغلوطة رجل القش: "نوع من أغاليط تشتيت الانتباه لأن مستخدمها يحاول دحض موقف الخصم، لكنه يقوم عوضا عن ذلك بالهجوم على موقف لا يتبناه الخصم".

أغلوطة المنحدر الزلق: "حين نفترض أن خطوات مقترحة سوف تسبب سلسلة من الحوادث المستهجنة والخارجة عن نطاق السيطرة، رغم وجود إجراءات تحول دون وقوع مثل هذه السلسلة من الحوادث". وعبر عنها الككلي بـ "التفرعات والمسارب"، بمعنى إذا سمحنا بنقد الانتخابات أو التشكيك فيها، فهذا سيؤدي إلى منحدر زلق يوصلنا إلى الحكم الشمولي، والمثال: "السماح بالإجهاض في الأسبوع الأول من الحمل سوف يؤدي إلى السماح به في الشهر التاسع.".

أما عدم إشارتي للبديل الأفضل التي ذكرها الككلي، فلأني، أولا، لم أرفض الانتخابات كمبدأ كي أعرض بديلا، ولكني طرحت أسئلة من الممكن أن تفضي الإجابات عنها إلى إصلاح البيئة الحاضنة لهذا الاستحقاق الضروري لتنال السلطة شرعيتها، والقبول بنتائجها، وهذا ما عبرت عنه في عديد المقالات التي نشرتها، والتي بالتأكيد أطلع عليها الصديق عمر لأنه كان يراجعها قبل النشر.

مع احترامي الوافر للصديق العزيز عمر الككلي الذي أعترف أني أستفدت منه كثيرا في حوارات شخصية، أو عبر كتاباته المهمة، أو عبر ملاحظاته حيال ما أكتب.