Atwasat

خارج قوس فليني

نورالدين خليفة النمر الخميس 21 أكتوبر 2021, 10:25 صباحا
نورالدين خليفة النمر

رغم استقالته مؤقتاً ـ بغرض الترشح لمنصب رئيس ليبيا ـ ظهر قائد مُسمى الجيش الليبي بالبدلة ورتب الميرشالية في مناسبات دعائية، بينما حسب ما أوردته (شعبة الإعلام الحربي) برز ابنه برتبة عقيد يشرح للقادة العسكريين التابعين لمُسمى القيادة العامة في شرق ليبيا فعاليات المناورة رعد 2021، بتاريخ 19 أكتوبر 2021.

هذه الظهورات الاستعراضية لم تثن رئيس المجلس الرئاسي والقائد الأعلى للقوات المسلحة الليبية عن أن يتواصل مع القائد العام المكلف بمهام قيادة مسمى الجيش الليبي بشأن التباحث في توحيد المؤسسة العسكرية، وأن يلتقي بصفته الرئاسية وكونه ينتمي إلى قبيلة المنفة المرابطة من قبائل الشرق الليبي بمشائخ قبائل طبرق والمرج وغيرهم للتباحث معهم بشأن المصالحة الوطنية وتعدي حالة الانقسام المجتمعي شرق/ غرب ليبيين.

انقسام ليبيا بإقليمين سيرنايكا عن تريبوليتانيا مصير جسدته أسطورة الأخوين فليني. الإيطاليون الذين بإحكام احتلالهم استطاعوا لأول مرة توحيد ليبيا، أقاموا نصباً تذكارياً على هيئة قوس صممه المعماري الإيطالي الشهير "فلورينستانو دي فاوستو" بطلب من حاكم ليبيا الإيطالي المارشال "إيتالو بالبو" احتفالاً بزيارة الزعيم الفاشي موسوليني عام 1937، ووضعه الإيطاليون كعلامة على الحدود الفاصلة بين إقليمي طرابلس في الغرب وبرقة في الشرق. تغلبت النزعة الرومانية بإقامة الصروح على رمزية التقسيم الليبي التي مثلها القوس، والتي نفت بدورها الجهود القتالية التي تشكلت في كتائب متنقلة من آلاف الجنود الإيطاليين، من إقليمي طرابلس وبرقة ضمن حركة مزدوجة بـ (تكتيك الكماشة) مستهدفة المتمردين في الخط القتالي سرت، الذي بسقوطه تكللت التطورات بتوحيد المستعمرتين، طرابلس وبرقة، تحت قيادة المرشال بيترو بادوليو. وشكل ذلك تحولاً كبيراً في التجربة الاستعمارية بحيث ضمّت ليبيا قبل ذلك حكومتين سياسيتين وقيادتين عسكريتين وإدارتين مختلفتين.

ووفقاً لما استنتجه الإيطاليون خلال فترة استعمارهم لليبيا، ولما كشفته داعش حين احتلت سرت، ولما توصّل إليه المجتمع الدولي مؤخراً بأشكال متنوعة، ليبيا هي دولة مقسمة تقسيماً عميقاً. وسيظلّ الليبيون العدو الأسوأ لأنفسهم ، من دون أي مقاربة حقيقية لذلك الواقع – بما في ذلك ربما إرساء نموذج كونفدرالي خاص بليبيا. حيث يعيد التاريخ نفسه فالصراع ـ الذي توّلد تاريخياً من رحم الانقسامات الداخلية وأحياناً القبلية وتغذى منها ـ ماهو إلا مصير الانقسام الذي تواجهه ليبيا المعاصرة في شكل التكرار الأحدث لنمط طويل الأمد.

لم تكن هناك أسباب اقتصادية أو اجتماعية دفعت لتبني النظام الاتحادي (الفيدرالي) شكلاً للدولة الليبية المستقلة عام 1951. فقد كانت زوايا السنوسية منتشرة وأصبح لها مريدوها الذين لعب بعضهم دورًا بارزًا في الحرب الجهادية ضد إيطاليا. فقد غادر إدريس السنوسي إلى مصر في 1922 تاركًا أمر الجهاد ومقاومة إيطاليا بالكفاح المسلّح وراءه. كانت له صلاته المعروفة بالإنجليز وانشغل بالعمل معهم إلى أن تمكّن في 9 أغسطس 1940 من تأسيس جيش صغير، سُمي بـ "السنوسي"، ليقاتل مع بريطانيا ويدخل في مفاوضات سياسية مكّنته بعد انتصار بريطانيا من العودة لليبيا في 1944 أميرًا لما عُرف بإقليم برقة. وكان إدريس قد تحصل على هذه الصفة من قبل بتوافق مع سلطات الاحتلال الإيطالي باتفاقية الرجمة، في 20 أكتوبر1920، لتقاسم الإدارة في الإقليم، ومنحه لقب أمير برقة، وإقرار الحكم الوراثي في إمارة تشمل واحات الجغبوب وأوجلة، إلا أن إيطاليا ألغت الاتفاق في 1929. وبمجرد احتلال بريطانيا أجزاء واسعة من ليبيا وسيطرتها على برقة وطرابلس، بينما سيطرت فرنسا على الجنوب، تعزّزت مكانة إدريس لدى الإدارة البريطانية التي وسّعت نطاق صلاحيات إمارته. كان مصير ليبيا وقتها محل جدل في ما عُرف بمجلس ليبيا التابع للأمم المتحدة الذي ضم في عضويته بريطانيا، وفرنسا، وأميركا ودولاً أخرى انقسمت بين داعٍ إلى تقسيم ليبيا، أو استقلالها موحدة أو وضعها تحت الوصاية. كانت الحركة الوطنية الليبية عمومًا، ترغب في الاستقلال الكامل وترفض مقترحات الوصاية، فعبّر الليبيون عن هذه الرغبات أمام لجان الأمم المتحدة التي أُرسلت لغرض التعرف على آرائهم.
اختلاف الدول وفشلها في الاتفاق أوصل الموضوع للتصويت بالجمعية العامة للأمم المتحدة، فاتخذت قرارًا باستقلال ليبيا. حاول إدريس السنوسي وضع شروط من شأنها إعاقة التوصل لاتفاق بشأن استقلال البلاد كوحدة واحدة؛ ففوجئ الساسة الوطنيون بأن الاستقلال والوحدة أصبحا رهنًا بالقبول بنظام ملكي سنوسي وراثي عكس الرغبة في نظام جمهوري، خاصة وأن ليبيا عرفت الإعلان عن أول جمهورية عربية في 16نوفمبر 1918 "الجمهورية الطرابلسية" التي اتخذت من مدينة العزيزية قرب طرابلس عاصمة لها.

كان الأمر حرجًا خاصة وأن الأمير الراغب في عرش البلاد بدعم خارجي لا يملك رصيدًا نضاليًا كبيرًا. لذلك، وأمام هذا الرفض القوي للملكية لجأ إدريس، مسنودًّا ببريطانيا، إلى الإعلان عن إمارة مستقلة في إقليم برقة في 11 أكتوبر 1949. كان واضحًا أن إعلان إمارة برقة قرار استفزازي وكان أشبه بحركة استباقية لوأد الحوار حول نظام الحكم، فأصبح الخيار صعبًا بين تهديد فرصة الاستقلال وربما الحرب الأهلية أو القبول بالملكية بعد أن أصر إدريس على تحويل برقة لدولة مستقلة في حالة رفض باقي قادة البلاد توليه العرش، متمسكًا بتسمية نفسه ملك ليبيا وأمير برقة حتى بعد الاستقلال. لم يكن أمام الحركة الوطنية إلا القبول بإدريس ملكًا في ظل نظام اتحادي بولايات ثلاث (برقة، وفزان، وطرابلس) وضعت دستوره لجنة بإشراف الأمم المتحدة .

من مستدعيات المطالبة الإقليمية بدعوى الحقوق التاريخية الفرز العنصري فالحق التاريخي يقترن عادة بدعوى أن الأرض التي يجري تحديدها كوطن لذلك الحق تكون مسكونة بآخرىن لا تمتلك هذا الحق، ولإعادة الحق التاريخي إلى أصحابه فلابد من إجلاء الدخلاء أو الغرباء عن هذه الارض. وهذا ما لجأت إليه الإدارة البريطانية في برقة عام 1949بحيلة الاختلاف اللهجي في نطق كلمة "شبكة" بين غرب ليبيا وشرقها لرمي غرابة الغرب الليبي خارج قوس فليني .