Atwasat

التجربة البرلمانية في ليبيا (2) (1908_1969)

سالم الكبتي الأربعاء 22 سبتمبر 2021, 10:34 صباحا
سالم الكبتي

.. وقبل ذلك كله ووصولا إليه - أعني إجراء الانتخابات وقيام مجلس النواب في برقة - تنبغي الإشارة إلى أنه كان من الأحداث البارزة التي نشأت وسط هذا الحراك السياسي والتفاعل في تلك الأعوام.. إعلان الأمير إدريس إستقلال برقة في 1 يونيو 1949 رغم تحفظ الكثير من القوى في داخل البلاد على هذا الإعلان الذي استوجبته ظروف ذلك الوقت. وقد أكد الأمير في الواقع عبر الإعلان توليه السلطات الثلاث: التنفيذية والتشريعية والقضائية حتى تشكيل حكومة وطنية دستورية تصدر بأمره قانونا للانتخابات ويتكون بموجب هذا القانون مجلس للنواب. وتمنى الأمير في نهاية خطاب الإعلان من قاعة قصر المنار ببنغازي أن (تنال طرابلس بحكمة زعمائها الأفاضل مانالته أختها برقة وأن تتحدا في رئاسة واحدة) وبهذا أضحى الاستقلال أو الحكم الذاتي في برقة إيذانا باستلام مقاليد الأمور من الإدارة العسكرية البريطانية المؤقتة التي تولت ذلك اعتبارا من العام 1943. وصار رئيس الإدارة يسمى بالمعتمد البريطاني وتألفت أول حكومة محلية في برقة برئاسة د. فتحي عمر الكيخيا في 6 يوليو 1949.

وهنا أعاد التاريخ نفسه ولكن بطريقة أخرى وإن اختلفت التفاصيل. فقد رجع الأمير إدريس إلى إمارته التي غادرها إلى مصر عام 1923عقب وصول الفاشست للسلطة في روما. ولم تعد الحكومة (حكومة إجدابيا) بل أضحت (حكومة برقة) وسيتولى الأمير شؤون إمارته هذه المرة بمساعدة حليفته (بريطانيا) التي وقفت معه في الحرب العالمية الأخيرة ضد إيطاليا وسينفذ ومعاونوه الذين كان بعضهم معه في فترة إمارته الأولى.. خطوات مشابهة لما حدث سابقا من خطوات.

في اليوم الثامن عشر من سبتمبر 1949 صدر الدستور البرقاوي بمعاونة من بعض فقهاء الدستور والقانون في مصر ذوي علاقة برئيس الحكومة فتحي الكيخيا وهو رجل قانون أيضا وبالاستفادة من القوانين الأساسية الإيطالية التي مرت بها البلاد. تضمن هذا الدستور عشرة فصول وثماني وستين مادة بينت في مجملها حقوق الشعب وتفاصيل مسؤولية السلطات الثلاث ومجلس الوزراء ومجلس النواب والنظم المالية والخدمة المدنية وتعطيل الدستور عند الطوارئ ونظام القضاء وغيرها من الأسس.

على ضوء إصدار هذا الدستور ووفقا لقانون الانتخاب رقم (8) الصادر من وزير الداخلية في 17 إبريل 1950 تم الشروع في إجراء الانتخابات لترشيح أعضاء المجلس من 50 عضوا يتنافسون في مناطق المدن الانتخابية وعددها (9) في مدن بنغازي والمرج ودرنة وفي مناطق القبائل الانتخابية في نفس المدن وما حولها وعددها (41). تم فوز المرشحين الذين يمثلون هذه المدن والقبائل فيما عين الأمير لاحقا بموجب المادة (43) من الدستور أحد عشر عضوا في المجلس بعد انتهاء الانتخابات.

وشهدت أيام الانتخابات خلال مايو ويونيو 1950 الكثير من الوقائع فقد تصادف زيارة المجلس الاستشاري للأمم المتحدة برئاسة مندوبها أدريان بلت الوقوف على جانب منها وذكرها كثيرا في تقريره المقدم إلى الأمين العام للأمم المتحدة (في إبريل 1950 مرقونا بالآلة الطابعة وفي مجلد ضخم صادر في ذلك الوقت من المنظمة الدولية) أشار فيه: بأنها من خطوات التقدم الدستوري في البلاد. كما كان تنظيم الانتخاب دقيقا مصحوبا بجداول وبيانات وتوضيحات بناء على متابعة من الأمير نفسه ووزير الداخلية وكبير مفتشيها المستر كاسبلز. فقد حدد هذا التنظيم للناس الكثير من النقاط وشرح العديد من الغوامض.. فمثلا أشار إلى أنه لأغراض الانتخاب تقسم البلاد لثلاث مناطق رئيسية وهي بنغازي والجبل ودرنة وتقسم كل من هذه المناطق إلى منطقتين يكون لهما ممثلون بالمجلس.

ووضح التنظيم أن حدود المناطق الثلاث الرئيسية تكون في كلٍ من هذه الحالات تلك الحدود الإدارية المادية أما الحدود الفارقة مابين مناطق المدن الانتخابية ومناطق القبائل الانتخابية فتكون في كل من هذه الحالات حدود البلدية كما هو منصوص عليه في قانون مجالس البلديات. وظل التنظيم يضرب أمثلة على مايقول: (لفظة المنطقة الفرعية للانتخاب القبائلي معناها ذلك القسم أو الأقسام المعينة من منطقة الانتخاب القبائلي والمأهولة من أي قبيلة أو فرع قبيلة معينة أو من أي فرد من أفراد تلك القبيلة أو الفرع. فمثلا جميع الأمكنة في منطقة الانتخاب القبائلي لبنغازي منتشرة غير أنه أينما كان وجود أي فرد أو أفراد من قبيلة المجابرة فإنهم يشكلون قسما من المنطقة الانتخابية لتلك القبيلة. أما الأمكنة التي يقيم بها أفراد قبيلة المجابرة في المناطق الانتخابية لدرنة أو الجبل فهم في هذه الحالة لايعتبرون قسما من المنطقة الانتخابية لقبيلة المجابرة). وفي إبريل 1950 صدرت اللائحة الداخلية لمجلس النواب في كتيب طبع في مصر وصار متداولا بين الناس وتضمن سبعة أقسام اختصت بالشرح والتفاصيل المجلس ونظامه وجلساته وتأجيلها ولجانه الدائمة والخاصة والإجراءات وترتيب الأعمال والتصويت والعرائض والأسئلة والاقتراحات ومشروعات القوانين وعرضها وقراءتها مرة أولى ثم ثانية ثم ثالثة وإقرارها وقواعد السلوك في المجلس والجمهور والصحافة والسماح لهما بحضور الجلسات العلنية.

وظل مديرو المناطق خاصة في الدواخل يتابعون الإجراءات الخاصة بالانتخابات وبناء عليها ووفقا لمشاهداتهم يرفعون التقارير إلى الأمير لوضعه في صورة مايجري أولا بأول. ففي يوم 16 مايو 1950 أرسل مدير الأبيار سعد علي إرحومة تقريرا مفصلا أوضح فيه بعض الأمور المهمة ومايقترحه من إجراء يوم الانتخاب وذكر فيه: (لقد حررت على كل المشائخ تعهدات والتزامات بالشروط المذكورة في قواعد الانتخابات وحملتهم المسؤولية العظمى وعرضتهم للعقوبة القصوى إذا حصل من أي واحد منهم أي خلل في شرط من شروط الانتخابات من زيادة أو نقص أو إدخال من لايجيز إدخاله القانون إلى غير ذلك. وكله مذيل بإمضاءاتهم كل شيخ على حدته. ولكني رغم هذا كله لازلت متخوفا من تصادم ربما أدى إلى ما لا تحمد عقباه. يجد فيه أهل الضلال بابا يلجون منه إلى عقيدة الناس حول الموضوع. أو نكون بسببه أضحوكة القرن العشرين في القواعد الانتخابية أو يكون برهانا للغير في همجيتنا ومايسموننا به على مسمع من العالم أو على الأقل نقطة ارتكاز في إزعاج غير ملائم في الوقت الحاضر لهذا أتقدم برأي وهو أن أعتبر كل شيخ بأصوات أنفاره ولانحضر الأفراد إلى المركز تفاديا من هذا التصادم المتوقع. يعني نكتفي بالشيخ ليوقع أصوات أنفاره في بيان المنتخب أما إذا حضرت الأفراد فلابد من حدوث تصادم مهما كانت لدي من قوة لقمعها ومهما أعطيت من سلطة لاستعمالها وقصدي دائما التفادي للنتائج غير المرضية).

اتخذ المجلس مقره في بنغازي في المبنى الذي يضم رئاسة حكومة برقة والذي سيصبح بعد الاستقلال مقرا للمجلس التشريعي البرقاوي ثم لبنك ليبيا في شارع عمر المختار وافتتح الأمير المجلس في يوم 12 يونيو 1950 قبيل حلول شهر رمضان بأيام قليلة. واستمع بحضور النواب إلى خطاب العرش الذي ألقاه رئيس حكومته السيد محمد الساقزلي. عرض الخطاب إلى أمور الداخل والخارج والشؤون المالية والتعليمية والصحية والميزانية وسياسة الإنشاء والتعمير لخرائب الحرب وطلب التعويضات من إيطاليا ومحاربة الأمية ومراعاة الشؤون الاجتماعية وتوفير الغذاء والوقاية من الأمراض والنهوض بالزراعة ورحب الخطاب بشروع مجلس الأمم المتحدة في ليبيا في أعماله لتحقيق استقلال البلاد مؤكدا على شرعية مقرارات الأمم المتحدة الدولية ومساعدة الشعب الليبي وصولا إلى حل للقضية الليبية.

اختيرت هيئة المجلس وتكونت من الحاج رشيد منصور الكيخيا رئيسا وعوض لنقي نائبا له والنائبين المعينين منير البعباع وسالم الأطرش سكرتيرين للمجلس فيما واصل جلساته التي بلغت حتى يوم 4 يونيو 1951 إلى اثنتين وثلاثين جلسة ناقش فيها العديد من القضايا والأمور وسط اهتمام دولي ومتابعة عالمية للأمر الليبي وقرب تحقيق استقلاله في 24 ديسمبر 1951. وكان يدون المحاضر أولا بأول الأستاذان: أحمد فؤاد شنيب ومحمود التائب كما اقترح المجلس في فترة لاحقة اختيار السيد محمد رفعت الرمالي الموظف بوزارة العدل لتولي شؤون إدارة سكرتارية المجلس. كما تابع المجلس في دورته التي استغرقت عاما الكثير من شؤون المواطنين وشكاواهم وكانت الصحف الصادرة في بنغازي تنقل ما يدور به وتتداول أخباره. وقد فقد أحد أعضائه النائب عن مدينة درنه إبراهيم الأسطى عمر إثر حادث غرق قرب درنة في سبتمبر 1950.

وبعد افتتاح المجلس بيوم (13 يونيو 1950) وجه النواب.. عبدالرازق شقلوف وصالح بويصير ومصطفى بن عامر وإبراهيم الأسطى عمر وعبد الحميد سعيد نجم رسالة إلى رئيس المجلس الحاج رشيد الكيخيا أشاروا فيها إلى ماحدث في إجراءات انتخاباته رئيسا مع نائبه السيد عوض لنقي: (بما أن المادة 47 من الدستور تشترط أن يصادق سمو الأمير على تنصيب الرئيس ونائبه. وبما أن التصديق السامي على تنصيبكما لم يحصل قبل الشروع فيما تداول فيه المجلس. فأن جميع القرارات التي اتخذت أثناء الجلسة ماعدا الإجراء الذي أسفر عن انتخابكما.. تعتبر باطلة بحكم الدستور الذي لايعتبر المجلس مرؤوسا برئيس شرعي مالم يصادق سمو الأمير على تنصيبه. ومعلوم أن كل إجراء يتخذه المجلس بدون رئيس شرعي باطل دستوريا وقانونيا. ومعلوم أيضا أن المجلس لم يحط علما بالمصادقة السامية التي تخوله مواصلة أعماله برئيسه الشرعي قبل الشروع في الإجراءات الأخرى. وبما أن الفقرة 2 من المادة 51 من الدستور تنص على أن تدوم دورة مجلس النواب إلى أن يأمر الأمير بفضها فإننا نعتبر الدورة لاتزال مستمرة وبناء على ماتقدم نطلب منكم اتخاذ الخطوات اللازمة لإصلاح هذا الخطأ الدستوري لاستدعاء المجلس للاجتماع في أقرب فرصة واستئناف جلساته والنظر فيما لديه من الأعمال الأساسية الهامة طبقا لأحكام الدستور التي نحرص جميعا على المحافظة عليها في مستهل حياتنا النيابية).

وعموما سار مجلس النواب في برقة بخطواته نحو ترسيخ التجربة البرلمانية وضم الكثير من الوطنيين الذين حرصوا على مراعاة الدستور القائم والقوانين النافذة. وقد أثار ذلك على الدوام اهتمام مندوب الأمم المتحدة في ليبيا ومجلسه. ثم اتجهت البلاد إلى تجربة أخرى مهمة في تاريخها البرلماني والنيابي برعاية دولية تصل بها إلى حلم أبنائها منذ زمن بعيد.