Atwasat

شيء من مذكراتي (4)

أحمد الفيتوري الثلاثاء 14 سبتمبر 2021, 10:47 صباحا
أحمد الفيتوري

الكتابة أخذت عمري، لكنها أعطتني أعمارا كثيرة: لقد منحتني عمر "اسخيلوس" في المسرح الأغريقي، والناثر أبو المؤانسات "أبو حيان التوحيدي"، وأعمي العرب "أبو العلاء المعري". هكذا تكلم: "نيتشة" و "ماركس" و "كانتزاكي"، "آنا أخماتوفا"، و "فارس شدياق" والناثر "نزار قباني" و "يوسف القويري" و "الصادق النيهوم". لقد أسرتني الكتابة، وفي نثرها خاصة، ولهذا تشيعت لـ "السردية، السيرة، الشذرات"، وحتى وإن كان اللب الشعر، فإن النثر كان حلاوة الروح.

ما كتبت كتبت، ولم أكتب غاضبا، ولا ركبت فرس الكلام، لخوض أيما حرب، الكتابة السلام، الكتابة الحياة، ولست مغاليا ولا مع المغالبة. وإذا لم أتعاطف مع قراءة لا أنقدها، وأكتب على مهل وروية، بل ومزمزة، كما لوكنت أتعاطى خمرا أو حبا. لكن كل كتابة لا بد من تجاوزها من جهة، ومن جهة أخرى، كنت أتمنى لو أني استوليت، على وقتي ونهبت عمري، من المحيط ومن جبروت قوة سجنتني، وكانت قبل مصادرة حريتي، من هذا لانملك وقتنا، ومن لا يملك وقته لا يعيش حياته. لقد كنت أتمنى، كتابة ما لم أكتب للأسف، لكن ما كتبت لم أندم عليه.

اسم كتاب ما كما اسمُك واسمي، دال وغير دال، فالإسم كثيرا ما يكون من جنس حامله، لكن في أحيان لا يدل على جنس. والتناص فيما يخص "سيرة بني غازي" من حيث الأسم يؤشر إلى "سيرة بني هلال"، كما يمكن أن يؤشر إلى دلالة اصطلاح السيرة في اللغة العربية. لكن النص كما أتصور مفارق لهذه الدلالة اللغوية، فلقد أردت، ولا أعرف مدى نجاحي، أن أكتب نصا لا جنس له، نصا مفتوحا عند البعض، خاصة وأني لم أكتب على الغلاف تخصيصا، مثل مصطلح "رواية" أو غيرها.

ولهذا أعتقد أن "سيرة بني غازي" هي نص "لكل قارئ قراءة"، هكذا من عنوانها، وفي متنها وحتى ركنها في الذاكرة، أو على أرفف المكتبة، عندما يكون قارئ يبحث عن تصورات مسبقة. وعلى ذلك فإن السجن، في رواية "ألف داحس وليلة غبراء"، هو مكان شباب الطفل، فثمة وشائج بين طفل "سريب" وشاب "داحس". ففي الأولى العلاقة الثنائية، بين الطفل والجدة، تكشف أهمية الجدة في الطفولة، وفي الثانية "داحس" العلاقة بين الشاب الابن والأب، والزمن في سلسلة تصاعدية، فيما الواقع في الثانية يبدو كما أسطورة. من هنا "سريب" الجدة، و"سيرة بني غازي" الأم، فيما "داحس" الحفيدة.

"سيرة بني غازي"، صدر في طبعته الأولى في التسعينات، عن المجلس العام للثقافة/ بنغازي، ثم الطبعة الثانية- دار ميريت- القاهرة – 2011م. وهو سيرة مدينة، رواية سيروية تسجيلية. أردت أن أكتبها كرواية خارج السياق، لهذا فيها من فنون الشعروالأساطير، والمسرح والسينما والفن التشكيلي، والصحافة والتاريخ والمذكرات والرواية الشعبية، تمتزج بالمكان والزمان، زمان الأسطورة والواقع، ومكان الجغرافيا والتاريخ حينما يتداخلان. وهي كتاب، في امتزاج المخيلة بالمقروء، من الواقع والكتب والرواية الشفهية. ولهذا تتضمن مقاطع شعرية نثرية، لكتاب أخرين، كما تحتوي أساطير، إضافة إلى يومياتي في المدينة بنغازي. حيث لكل مدينة تفرد غني بالتجربة والمعارف.

من هذا "سيرة بني غازي"، رواية مكثفة كقصيدة نثرية، ونثرية سرد كما "سيرة بني هلال" والسير الشعبية. وهي تجربتي في الحياة والسجن والحرية، من خلال علاقة بالمدينة، مسقط الرأس، مدينة الحرب والسلام، التي عاشت الحرب الكبرى الثانية، كما مدينة صغيرة عاثت فيها جيوش كبرى. ومن يطالع "سيرة بني غازي" متأنيا ويفككها، سيطالع التاريخ البشري في مستويات عدة، وإن صغرت فدلالتها عميقة.

لقد بدأت الحياة وقد تلبستني القراءة، وروح القراءة الكتابة. وعرفت مبكرا أن لا قراءة دون تدوين، لكن جدي الأعمى، يرى غير ذلك، فعنده القراءة مشافهة، وتتناقل سماعيا، وكل تدون انتهاك، فالمكتوب مرصود، لكن الشفهي حي وحيوي. وقد جاء، في روايتي "بيض النساء"، جدي يسعى بهذا الرأي، وبعين ثاقبة، كما عين أبي العلاء المعري، ألح أن يقول لا للتدوين، وأدون ما قال...