Atwasat

شيء من مذكراتي (2-2)

أحمد الفيتوري الثلاثاء 31 أغسطس 2021, 12:51 مساء
أحمد الفيتوري

الجدة هي المدرسة العليا، إذا كانت الأم مدرسة، والكثير منا يذكر مرثية «المتنبي»، من عله بهذا، كان يشير إلى معلمة أولى، ساهمت في إنماء وتثقيف مخياله، بحكاياتها وخراريفها وحواديثها، التي نبعها الخيال، ومحتواها الثقافة الشعبية، الزاخرة بعلوم العصر (الزمان والمكان).

جدتي من اسمها «الزائرة»، من مدينة غريان بالجبل الغربي، وانتقلت إلى بنغازي بشرق البلاد، وُلدت وعاشت في العهد الإيطالي، ثم واكبت مرحلة الإدارة الإنجليزية، فالعهد الملكي. كانت طباخة ماهرة، فخدمت في بيوت طبقة عليا، مثل المدير العام للبنك الوطني. ومن هذا كانت مثقفة شفهية، ذات تجربة غنية. قضيت طفولتي، ثم صباي، في كنفها، ومن هذا نشأت متعدد المشارب والألعاب والهوايات.

أظن من هناك كان أساس، أن ميولي كانت للعلوم البحتة، كما للعلوم الإنسانية، وفي المدرسة والمكتبات، استهوتني المعرفة. لكن كتبت دائمًا في الآداب والنقد، كتبت الشعر، لكن النثر عندي حجر الأساس، فكان السرد، حتى أني أبدأ، أي موضوع أكتب، ساردًا. وحين بدأت النشر، في الصحافة في السنة السادسة عشرة من عمري، استخدمت أسماء مستعارة، خاصة النسائية، ما منحني حرية تنوع الكتابة وجُرأة الآراء، ما حصدت من تلكم البداية.

ولهذا كتبت الأنواع الأدبية، وتشكلت الروح من تلك الحرية، حتى أني أفضل النثر على الشعر، المسرح على الرواية، النقد الأدبي على الفلسفة، التاريخ على العلم، الرياضيات على الموسيقى. فكانت التجربة الحرة، ما تأسست على اطلاع متنوع، بحب ودون تحيز. وفي البدء، وفي المدرسة، كتبت المسرح، كما كتبت نثريات، كما شذرات فكرية. وكنت عضو فرقة مسرحية، وأعمل في الصحافة وأنا طالب. وأول رواياتي، كنت في العقد الرابع حين كتبتها، وهي عن الطفولة والشيخوخة، في زمان ومكان واقعيين محددين، ولكن عن شخصية رئيسة: طفل. وكانت الأسطورة والخرافة، من لزوم ما يلزم، أما الجدة الساردة، فمسرودها كما لو كان التاريخ.

المدرسة أول معلم مسرحي، حتى إن كان هناك مهرجانات مسرحية مدرسية. ومن هذا فإن صديقي الراحل «إدريس المسماري»، مثّل طفلًا في مسرحية لـ «يوسف وهبي»، من جاء بنغازي بفرقته، ولم يحضر طفلًا معه طبعًا. كذلك كان صديقي «داوود الحوتي»، تلميذًا للممثل المصري عمر الحريري، من كان يعمل، بفرقة «المسرح الشعبي» ببنغازي. وهكذا كنت أفضل «توفيق الحكيم»، عن الكتاب المصريين الآخرين، فقرأتهُ صبيًا. وفي مقتبل العمر كان أمام جيلي طريقان: الفن والرياضة. وكنت أحسب أني من المثقفين، وكتاب المسرح، حيث كتبت عدة مسرحيات، مثل مسرحية «شارع بوخمسين»، التي صُورت وقدمت تلفزيونيًا. وحينها في مطلع السبعينيات بات المسرح الطليعة، ومكنة تأسيس فرقة مسرحية متوفر، حتى أمسى كما موضة. فشاركت في تأسيس، فرقة «فنون الشباب»، بالحي الشعبي «المحيشي»، ولم تنجح الفرقة. لكن المشاركة في تأسيس فرقة «المسرح الحديث»، كانت ناجحة، فمن أهداف تلك الفرقة الرئيسة، تقديم مسرح ليبي تأليفًا وإخراجًا وتمثيلًا. وكان ممن ساهموا في التأسيس، الفنان التشكيلي والمخرج المسرحي الراحل «علي بوجناح»، والكاتب الراحل «عبدالله علي الضراط»، والممثل والمخرج «محمد بن حريز»، والمخرجان التلفزيونيان «محمود الزردومي» و«علي محمد المصراتي».

فرقة «المسرح الحديث»، كان تأثيرها مميزًا، بدافع النشأة ومقاربتها للمحلي، ومنطلقها الثقافي. لقد قدمت كتّابًا ليبيين، مثل الراحل «علي الجهاني»، وكذا مخرجين مميزين عدة. وعرضت في الشارع، وقدمت عروضًا مسرحية، ضمن مناشط ثقافية متنوعة، في إطار تكريم رواد مسرحيين كالكاتب «مصطفي الأمير» والممثل «سالم بوخشيم». من هذا في عقد السبعينيات، كان لها التأثير على الجمهور، وفي وسطها المسرحي والثقافي. حيث كانت تصدر مجلة ثقافية مسرحية أيضًا. وقد كانت بمثابة منتدى مسرحي ثقافي، يعمر بفاعلية المثقفين الليبيين، والعرب المتواجدين في المدينة، كالكاتب السرحي الليبي «البوصيري عبدالله» والشاعر الفلسطيني «محمد القيسي» وفنان الكاريكاتير المصري «عبدالعزيز تاج»...وغيرهم. لكن المسرح في العالم، منذ عقود تقاعد، وترك الركح، للمستجد من الفنون، كما أتصور.