Atwasat

سقوط كابل والفيروسات المتحورة

سالم العوكلي الثلاثاء 31 أغسطس 2021, 12:49 مساء
سالم العوكلي

​كلاهما، الفيروس والإنسان، يتحور ليصبح أكثر فتكًا وأكثر انتشارًا.

التأمل فيما يحدث الآن في العالم من تبدل لميزان القيم وجداول المعايير، وفي شرقينا الأوسط والأدنى خصوصًا، يجعلنا نقف عند مشاهد مفصلية يبدو أن أشياء كثيرة ستتبدل بعدها، وسيُلحق كل مشهد، بجدارة، خلف (ما بعد) ليصبح مصطلحًا يطلق على مفصل مهم في التاريخ، مثلما يقترح البعض الآن مرحلة اسمها ما بعد كورونا، لكن كورونا المصر على المراوغة لم يختفِ ليفتح المجال لما بعده.

بعد عقدين بالتمام، احتلت أثناءهما الولايات المتحدة وبعض القوى الداعمة من حلف الناتو أرض أفغانستان، تُقرر أميركا أن تسحب قواتها، بعد أن اطمأنت على المناخ السياسي والأمني الذي صنعته خلال عشرين سنة، وستقول للعالم: دخلتُ أفغانستان وهي دولة مضطربة يحكمها تنظيم ظلامي كأنه قادم من كتب الأساطير، وتركتها دولة ديمقراطية، تنتخب فيها السلطات دوريًا، تقام فيها السهرات الموسيقية، وتتسكع النساء ببنطلونات الجينز والنظارات الشمسية محميات بجيش يقارب النصف مليون، دربتْه أعظم قوة عسكرية في التاريخ البشري، غير أن هذا الوهم؛ الذي طالما جعلته الولايات المتحدة ذريعة لتدخلها في أي جزء من العالم، تعرّى تمامًا مثلما تعرت أوهامٌ في مغامرات سابقة، حين عادت قوات حركة طالبان للسيطرة على أفغانستان في فترة قصيرة وأقل من الفترة التي خططت لها أميركا كي تسحب جنودها، ولم يكن يعطل نزهة مسلحي طالبان في ولايات أفغانستان المترامية الأطراف سوى الطرق المكسرة والانعطافات. فجأة تبخر الجيش الأفغاني وقواته الخاصة وكل المؤسسات التي صرفت عليها الولايات المتحدة ألفي مليار دولار خلال عشرين سنة، ودخلت حركة طالبان كابل وانتشرت في شوارعها تنظم حركة السير، وتطلي حتى صور النساء في الملصقات بنقاب من الزواق الأسود، وبات الطريق القصير إلى المطار أخطر طريق فوق الأرض، تتوجه إليه عدسات الميديا الكونية على مدار الساعة، وأصبح من الممكن أن نتحدث عن مرحلة (ما بعد) سقوط كابل.

كانت أميركيا الراضية عن مهمتها في تلك الأرض التي تبعد عنها عشرة لاف ميل أو أكثر، لا تفكر سوى في سحب جنودها، غير أن هذه التقلبات السريعة جعلها تتورط في مهمة سحب الجنود ورعاياها ورعايا الدول الحليفة، وفوق ذلك عشرات الآلاف من الأفغان الذين تعاونوا أو عملوا معها مطمئنين وواثقين أنهم في حمى أعظم قوة فوق الأرض، ولتسحب معها كل الكوادر الفنية ولإدارية التي دربتها في الدولة الموقتة.

غير أن السريالية كثيرا ما تغزو التاريخ في عقر منطقه، وتزودنا بمشاهد كأنها من فيلم خيال علمي أو رواية ديستوبية يحاول المؤلف أن يشطح بها إلى أبعد حد من الكوابيس.

كان انهيار برجي منهاتن أحد هذه المشاهد التي تابعها سكان الأرض على الهواء مباشرة، وكأنهم يتابعون أحد أفلام هوليوود التي تحاول أن تقنع المواطن الأميركي بخطر الأشرار الذي يتهدده، لكن مخابراتها وقواتها ستنتصر في النهاية وتقتل الأشرار وتحميه من الكابوس، وهذا التهديد بالخطر هو ما يجعل ميزانية أجهزة الأمن القومي تتجاوز التريليونات، غير أن لا أحد أنقذ برجي منهاتن من الانهيار بمحتواه البشري، ولا ركاب الطائرات المخطوفة التي تحولت إلى صواريخ حشوتها من البشر، وبالتالي سيكون الثأر القاسي أفضل طقس تطهيري لدافع الضرائب الأميركي الذي يثق في رؤى ساسته وفي قدرتهم على الثأر.
المشهد الآخر، كان مشهد تماثيل صدام حسين وهي تتهاوى في شوارع العراق، ثم القبض عليه ملتحيًا في حفرة، وصولًا إلى قفلة سينمائية لهذا الفيلم القصير بمشهد لصدام وهو يسقط في هاوية المشنقة بعد محاكمة استعراضية طويلة، أدى فيها صدام بحرفية دور البطل أو الضحية التي خذلتها العدالة، والتي لن تتخلى عن عنجهيتها حتى وهي في طريقها إلى حبل المشنقة، كما يفعل القتلة المتسلسلون حين يُقادون إلى الكرسي الكهربائي وهم يضحكون ويسخرون من العدالة ومن كل شيء.

وفي مشاهد ثأرية مؤثرة، وثقتْ كاميرات البنتاجون والبيت الأبيض عملية اقتحام القوات الخاصة الأميركية لبيت أسامة بن لادن الرابض وسط كاميرات مراقبة على أرض باكستان بعد أن تقاعد عن العمل في شركة الإرهاب المتعددة الجنسيات والعابرة للحدود، وقُتل خلف زوجته وأمام أبنائه لتختفي جثته تمامًا، ومثلما تحور فيروس «كوفيد- 19» بعد أن واجهه العالم واكتشف أسراره إلى فيروس «دلتا» المحير، تحور تنظيم القاعدة إلى داعش التي أصبحت أكثر فتكًا وأكثر عدوى وانتشارًا، وقادرة على احتلال أراضٍ وأقاليم، وعلى بيع النفط علنا والآثار والأطراف البشرية، وعلى توثيق جرائمها بتقنية هوليوودية حيرت المراقبين.

المشهد الآخر تمثل في احتشاد عشرات الألوف من الأفغان في مطار كابل وحوْلَه ــ من تعامل منهم مع الأميركان مباشرة أو من عاش في ظلهم شغفًا لا يستطيع التراجع عنه ــ وتجسدت ذروة السريالية في مشهد من كانوا يتسلقون جوانب الطائرات وكأنها نياق باركة في محطة قوافل، ومن تعلقوا بإطارات الطائرات وهي تقلع وسقطوا قتلى بعد دقائق من ارتفاعها على تراب الوطن.

كان المشهد طقسيًا ومؤثرًا، ويشبه هؤلاء المهاجرين الذين يرمون بأنفسهم في عرض البحر عبر قوارب مطاطية، ويموتون غرقًا في طريق الحلم بالوصول إلى العالم السعيد. وفي مجملها تشكل نوعًا من العمليات الانتحارية السلمية التي قد تفضي بهم إلى الوصول إلى جنة الغرب الخضراء التي تجري من تحتها الأنهار وحقوق الإنسان.

منذ أيام، أو أسابيع، أو شهور قليلة، كانت طالبان؛ التي لا تزال تنفذ عمليات تفجير انتحارية حيثما طالت يدها، تُوصف في أدبيات العالم الحر بالجماعة الإرهابية، وفجأة أصبحت طرفًا في الحوار، يراها الذين صنفوها إرهابية أنها تغيرت ولم تعد طالبان الأولى التي طردها الأميركان، وأن العالم سيعترف بها لو تبنت تأسيس دولة ديمقراطية واحترمت حقوق المرأة والأقليات.. إلخ الخزعبلات التي يسمونها شروطًا. وطالبان التي تداعبها شهوة السلطة، تحاول أن تطمئن هذا العالم، لكنها فقط تحتاج إلى بعض الوقت، كما يقول ذبيح الله، أو كما يقول المثل: تمسكن حتى تتمكن. ولا أحد يعرف مدى هذا الوقت، وما أهمية الوقت والزمن لدى منظومة ينطلق مشروعها من العودة في الزمن إلى ما قبل اكتشاف كل القيم التي يطالب المجتمع الدولي بها.

طالبان طلبت من النساء العاملات المكوث في بيوتهن وستصلهن الرواتب حماية لهن، وصرح الناطقون باسم الحركة، أنهم سيقيمون شرع الله ولن يقيموا نظامًا ديمقراطيًا بالتعريف الغربي، وبالتالي ليس أمامها سوى تطبيق الديمقراطية بالتعريف الشرقي أو الإسلامي، وتراث الشرق زاخر بالنظم التي تؤثث أعتى الدكتاتوريات بالدساتير والصناديق والانتخابات، وأحد هذه النماذج الشرقية القريبة منها نظام ولاية الفقيه في إيران حيث الديمقراطية التي تتعهر بين شفاه وفوق لحى الملالي، وحيث تقيم العمائم شعائرها الديمقراطية بما يشبه حفلات التنكر في المجتمعات الغربية.

طالبان الإرهابية، المستفيدة والمُلهَمة من النظم العربية، تُصرح بلغة عربية فصيحة، أنها قبل أن تشرع في بناء الدولة ستهتم أولًا بالأمن وبمحاربة الإرهاب، وتبلغ السريالية مداها حين تقف في الخندق نفسه مع الولايات المتحدة كمحور جديد لمحاربة الإرهاب.

مثلما كانت ثورة إيران الإسلامية منعطفًا في تاريخ المنطقة، أجهض كل إرهاصات النهضة التي بدأت مع القرن العشرين، ومثلما شكلت مشاهد احتراق برجي التجارة والقبض على صدام، أعتى دكتاتور في المنطقة، منعطفًا في المنطقة والعالم، سيكون اجتياح طالبان لكابول في عربات أميركية مصفحة وبملابس تمويه بنتاجونية منعطفًا آخر في المنطقة، لأن الفرص التي أتاحها الغرب للمتطرفين كي يحكموا وينشئوا دولاتهم الإسلامية، تعزز أحلام كل الجماعات الدينية في المنطقة التي كل مرة تحس أن الأمر ممكن، منذ أن سمحوا، بل ودعموا وصول الملالي للحكم في إيران، ومنذ أن دعموا تنظيمات الإخوان وحلفاءهم من الجماعات الدينية في الوصول إلى السلطة في بلدان الربيع العربي، وها هم يهبون طالبان نصرًا مؤزرًا لتقيم دولة ظلامية هم يعرفونها جيدًا، ستصبح ملاذًا لكل الجماعات الإرهابية الفارة، مثلما تحضنها تركيا الآن تحت لافتة المعارضة السياسية.

فمن يعتبر السريالية هروبًا من الواقع، هو في الواقع لا يعرف جوهرها، لأنها في الأساس نابعة من فانتازيا التاريخ الذي شكلت المفارقة والفكاهة والشطحات الخيالية روحه الأصيلة.

بعد عقدين يبدو أن حركة طالبان تنتصر على حلف الناتو، لكن أميركا أيضا تقول أنها انتصرت وحققت مرادها. فمن المهزوم في هذه الحرب التي انتصرت كل أطرافها؟. يبدو أن المرأة الأفغانية ــ وعادة ما تدفع النساء الثمن الباهظ لكل حرب ــ هي الوحيدة التي تجرعت الهزيمة، وهي تنطفيء خلف الأقمشة الخشنة من جديد بعد أن تذوقت في ظل الاحتلال لسعة ضوء الشمس ونشوة الهواء الطلق.

ولا يزال العالم حائرًا في الفيروسات الزائرة: هل هي طبيعية أم من صناعة المختبرات البيولوجية؟ مثلما هو حائر حيال هذه الجماعات التي تختفي وتعود أكثر قوة وفتكًا وعتادًا: هل هي طبيعية أم نتاج المختبرات الإثولوجية في مقرات الاستخبارات العالمية؟